Atwasat

تغيير مجرى البترول.. وابتسامة العاصمة

أحلام المهدي الخميس 26 يوليو 2018, 12:26 مساء
أحلام المهدي

الجضران يهاجم الموانيء والحقول النفطية، إنه يسيطر على قوت الليبيين، الجيش الوطني يستعيدها، المشير حفتر يحتفظ بها للشرق، صنع الله يخرج من المعادلة، شبح تقسيم البلاد يلوح في الأفق، إنها مؤامرة غربية محضة، الليبيون في شرق البلاد هم السبب، ليبيّو الغرب هم من نفّذ المؤامرة، إيطاليا تعود إلى الحلم الليبي القديم، أميركا هي من يُخرِج هذا العمل ويتحكم بالجميع.

بمثل هذه العبارات وما تدعمها به القريحة الليبية دائما من تعبيرات تفيد التخوين والتهميش للآخر المختلف، مع بعض المفردات الملتصقة بألسنتنا منذ الولادة يتعاطى الجميع السياسة، ويتحوّل الليبي البسيط إلى خبير اقتصادي ومالي لا يُشقّ له غبار، وفي خضم كل ذلك أيضا كانت زيارتي الأولى لطرابلس قبل أيام بعد مرور ما يزيد عن سنتين في أطول فترة أبتعد فيها عن عاصمة البلاد حتى وأنا أعيش على بعد عشرات الكيلومترات فقط منها.

كنت على طول الطريق الواصل بين طرابلس والجبل أراوح مع الأمل بين المدّ والجزر، فالطقس المتململ تحت أشعة شمس يوليو الحارقة لم يمسّني بسوء وأنا الليبية المدللة في سيارة يحولها البترول إلى ركنٍ بارد لا يعبأ بحرارة شمس القارة، ثم إن عودة الحياة إلى طريق العزيزية مع انتشار البوابات التي لاحت فيها الأناقة الرسمية لم يحجب عنّي ركام المطار ودخان الطائرات الذي هاجم ذاكرتي فورا، وعلى طول الطريق تساءلت عن الشوارع والأعلام التي تشاركت الألوان الباهتة، ولماذا هي آخر اهتماماتنا رغم إنها بداية كل شيء، وعن جدوى استمرار كلام الجدران الذي كان مجرد حالة من الفوضى لم أحب أن تستمر، وبين الطريق والبيت مرّ النهار سريعا وفي طرابلس دون غيرها أشعر أن للوقت ساعات إضافية يجب أن نعيشها في كل الظروف، وبالنظر إلى الفترة التي غبت فيها عن البلاد فقد قابلت رغبة أختي بالخروج في المساء ببعض الريبة، لكنها تعيش في المكان وهي أدرى منّي على كل حال.

الازدحام على طول الطريق يقول إن المدينة تتنفس جيدا رغم الخدر الذي يصيب بعض شوارعها، وللمرة الأولى أكتشف أني لا أكره "الزحمة"

الازدحام على طول الطريق يقول إن المدينة تتنفس جيدا رغم الخدر الذي يصيب بعض شوارعها، وللمرة الأولى أكتشف أني لا أكره "الزحمة"، وقد أنعشتني هالة الضوء التي كانت تصل بين السماء والأرض وكانت ابنتي تنظر إليها وهي تقول "استاحشت البحر"، ولم نبتعد كثيرا عن البحر عندما غادرنا السيارة وافترشنا العشب مع عدد أكبر بكثير مما تصورت من الناس، من الليبيين الذين لم يجعلهم سعر الخبز يتوقفون عن استنشاق الحياة مباشرة من رئتَي المتوسط، ولم ينقطع خيط الأمل الذي يتشبثون به بانقطاع الكهرباء عن بيوتهم، ولم يجعلهم الوقوف طويلا في طوابير النهار يلزمون بيوتهم في الليل، بل خرجوا للمشاركة في مهرجان الحياة والأمل، فالعواصم تموت إذا خافت ونامت باكرا.

كان هذا البساط الأخضر الشاسع "ليبيا" صغيرة، رأيت فيه كل الوجوه والهيئات المألوفة في شوارعنا، واستمتعت بالتناقض اللذيذ بين الموسيقى الصاخبة التي تملأ المكان وبين بعض الوجوه التي تلاشت خلف نقابٍ أو لحية كثيفة، ثمة أيضا شيء من جمال يؤطّر صورة جمعت بين أم لم تفرّط في الوشم الذي يزين جبينها وابنها العشريني الذي يرتدي سلسلة كبيرة قد تليق بالأم أكثر، وأيضا بين أب أكمل أناقة الفرملة الفخمة التي يرتديها بحقيبة من "لويس فوتون" تدلّت من كتف ابنته، أما الضوء الأزرق والأحمر الذي ينبض أعلى عدد من السيارات القريبة من المكان فهو ما يترجم بقاء الناس فيه حتى ساعات الصباح الأولى.

والأطفال الذين يتقافزون حول مصدر الموسيقى يقولون بأجسادهم الصغيرة حكمتهم الأزلية "ابقَ حيث الموسيقى فالأشرار لا يغنّون"، والأشرار لا يرقصون أيضا، والأشرار وحدهم من يرون أن ليبيا مجرد بِركة من السائل الأسود الثقيل الذي قد ينضب يوما، وتختفي لعنته للأبد.