Atwasat

نحو الغرب

عبد الكافي المغربي الأربعاء 25 يوليو 2018, 12:25 مساء
عبد الكافي المغربي

ما زالت الهجرة موضوعَ جدل يفور أولًا في الأرض التي تبتعث المهاجرين، وثُمَّ الأرض التي يقصدها القاصدون، وليس يخلو الجدل في الموطِن المصدِّر والوطن البديل من إسفاف رخيص، والهجرة إلى الغرب، الذي يشغل رقعة من الأرض لا تمور بالاضطرابات ولها وفرةٌ تؤيدها على الاختناقات الاقتصادية، إن الهجرة إلى هذه الأرض المستقرة لأكبر هجرات عصرنا، إذا كانت هجرة الأوربيين وعبيدهم الزنوج إلى العالم الجديد أعظمها في التاريخ. ومن ذا الذي ينكر أن الحياة في دول الغرب أمنيةٌ مقدسة لدى كل مقيمٍ في أرض تطْحن وتُعذِّب وترَوِّع، حتى إنك لا تصادف منصتًا إذا زعمْتَ أن تكلفة العيش في الغرب باهظة وأوقات العامل في أصقاعه شاقة، وأن الكثيرين، الكثيرين جدا تؤرقهم الرغبات التي لا يجيبهم إليها دخْلهُم.

الجدل في العالم الغربي حول القادمين الذين يُلمحون إلى تهجين الأعراق الأصلية أقل حدة منه في بلادنا

لا شك أن الجدل في العالم الغربي حول القادمين الذين يُلمحون إلى تهجين الأعراق الأصلية أقل حدة منه في بلادنا، ذلك أنه وإن لم تخلُ الساحة من الشبان اليائسين الذين تجتذبهم التيارات القومية اليمينية فإن الكهول، والنساء، والشباب المستنير، ويمثل جميعهم أغلبية قاتلة بالتأكيد، يودون لو عوضت أوروبا شعوب المستعمرات عما نزل بها من ظلم، باستضافة الموهوبين والحاذقين في بلادهم، وذلك بالتحديد ما ورد على لسان David crystal في إحدى المناسبات.

أما العقل الجمعي العربي الذي لا يكف عن تعذيب الكفاءات وإذلالها، فلا يوفر زعيقًا ولا يبخل بتقريع شأنُه أن يهين الباحثين عن حياة طيبة ويُخوِّنهم، ويفصح الوعي العربي للقضية عن هيئته الممسوخة في الإنتاج الدرامي السخيف.
لا ريب أن كل رجل طموح يطلب كرامة العيش ولا يتخاذل في نيل ما يجدر به يجد كل باب مغَلّقا دونه، وليس غيرَ الباب الأخير الذي ينفتح عن أنماط من الحياة مستهجنة في أحيان كثيرة، متَسِّعًا له. وعلى هذا النحو يجد الناجحون أنفسهُم في العالم الغربي.

وإذًا فليس ثمة غضاضة أو سفاهة تحايث فكرة الهجرة، إنما الموازنة بين قطبين متطرفين والتقاطع مع المحور هو التحدي الفادح. والرجل العربي المقيم في الغرب واحد من ثلاثة: لَعّان لثقافته، يذكر أيامه السوداء في داره الأولى فينتفخ ويحتقر، وإذا بأصله وترابه من أسباب محنته، ثم يتجاوز عن الاستبداد والوعي الجمعي المسف بفعل هجرة القامات الأكاديمية وأهل الإبداع فرَقًا من الافتقار الذي يقدِّره عليهم فساد الطغاة - وغيرُ آبه لعرقه مع استعداد للذوبان في مكونات الوصفة الغربية - ووسطي متَّزِن معتزٌ بثقافته ناقدٌ لها في الوقت نفسه، معجب بالمجتمع الغربي متحفظ إزاءه في آن واحد.

أدان طه حسين في رائعته الريتوريكية "أديب" المثقف العربي الذي يتحول إلى مخلوق هجين ليس هو بالغربي الصرف، أو بالعربي الخالص

أدان طه حسين في رائعته الريتوريكية "أديب" المثقف العربي الذي يتحول إلى مخلوق هجين ليس هو بالغربي الصرف، أو بالعربي الخالص، إذا الحضارة المتألقة والثقافة المتنوعة والرغبات الآثمة تقصيه عن أصله، لكنها لا تدنيه من هوية بديلة يمكن أن يتقمصها. وذاك الذي تناوله طه حسين ولم يكن على درجة عالية من الأهمية في وقتها يصح اليوم على صاحبيْنا العاشقَيْن لحضارة الغرب.

إن الوسط الذي أطلبه، ويطلبه طه حسين، ويجب أن يطلبه كل عربي يخطط للإنبات في الغرب، لن تتم الإحاطة به، بل لن يُحدّد، في عتمة الوعي بالأصالة وأهمية الإبقاء على تركيبة عربية موفقة في جميع معتركات الحياة الغربية، وتفخر مع ذلك بانتسابها إلى العرق الذي قاوم عوامل البوار مقدارَ ألف سنة، وبلغتها الجزلة الأنيقة التي لن يخسر أحد إذا ما تحدثها الأطفال كأهلها. ولقد حذر David crystal في كتابه "موت اللغة" من انقراض اللغات الهامشية التي تزحمها اللغات الكبرى، وفي العالم الجديد بصفة خاصة، وعبر عن استيائه في أدق صياغة من حلول الإنجليزية محل اللغات الصغرى بوصفها أداة تميز، إنه إذا ما تخلى الصغار وآباؤهم عن لغتهم الأصلية فإن العالم يريد التنوع، ويجب أن يتدارك وعي هؤلاء بمعالجة مباشرة لنهجهم الذي لا يمليه العقل، لأنه بإمكاننا الحفاظ على لغة البيت وأيضًأ اكتساب لغة مجتمعنا. لكن المؤسف أن كثيرا من عرب الغرب لخليقون بأن يخفضوا هاماتهم استحياءًا إزاء النسخة العرجاء من العربية التي يتحدثها المستشرقون.