Atwasat

وحدة ليبيا بدون أيّ تجزئة" 1948-2018

نور الدين السيد الثلثي الإثنين 23 يوليو 2018, 11:07 صباحا
نور الدين السيد الثلثي

جاء استقلالُ ليبيا ووحدتُها تتويجاً لجهادٍ نبيل وتضحياتٍ عظيمة، ولنضالِ المخلصين في ميادين العمل الوطني والسياسة الدولية. أكثرُ من ثلاثة عقودٍ من التضحيات العِظام طالت أرواح نصف السكان؛ قاوم الليبيون خلالها الاستعمارَ الإيطالي الفاشستي الاستيطاني بمعتقلاته ومشانقه ومنافيه، رغم الفقر والضعف وقلّة العدد؛ وانتصروا.

وكان في وحدة طرابلس وبرقة وفزان في دولة اتحادية تجسيدٌ لرؤيةٍ وطنية جامعة، وحمايةٌ لمصالح الأقاليم الثلاثة في ظل تجاذباتِ دولٍ طامعة في الظّفَر بالهيمنة تقاسُماً للأقاليم فيما بينها. مطلب "وحدة ليبيا بدون أيّ تجزئة" كان، على سبيل المثال، في صدر "أهداف وغايات" جمعية عمر المختار (*) في أربعينيات القرن الماضي. وتحققت المطالب الوطنية الكبرى بإعلان "المملكة الليبية المتحدة" دولةً مستقلةً، مُوحِّدةً لولاياتها الثلاثة، ومراعيةً للعوامل التاريخية والجغرافية لدولةٍ مترامية الأطراف.

أكثرُ من ستين عاماً مضت على إعلان استقلال البلاد ووحدتها، وسبع سنواتٍ مستمرّة من الاقتتال والنهب وتدمير المؤسسات وتقاسم المغانم

أكثرُ من ستين عاماً مضت على إعلان استقلال البلاد ووحدتها، وسبع سنواتٍ مستمرّة من الاقتتال والنهب وتدمير المؤسسات وتقاسم المغانم، طمعاً وتعصّباً وعمالةً، لنجِد الاستقلال قد ولّى، والإيطاليين قد عادوا، ووحدة البلاد في خطرٍ واقع.

وتشهد البلاد اليوم تصدّعاتٍ خطيرة؛ على جانبيها شرقا وغربا، وإسلامي ومدني، وقبيلةٌ وأخرى، ومدينة وغيرها من المدن. ويغمر تلك التصدّعات فسادٌ وعمالةٌ للأجنبي وسلاحٌ منفلت وغيابٌ للمساءلة والعقاب. ونرى جنوب الوطن مهدّداً بالضياع، وأهلَه - أهلَنا - في خوفٍ وعَوَزٍ ومواجهةٍ مع الغرباء، في حين تنشغل مراكز القرار والقوة والمال في الشمال بالنهب والتحاصص، ورعاية مصالح الأجنبي وحماية شواطئه، غيرَ مبالية بمأساة الجنوب ونُذُر ضياعه. وتزداد التصدّعات عمقاً تحت حكومة ’وفاق‘ مفروضة من الخارج، وبرلمانٍ هزيل عاجز لا يمثّل ناخبيه رغم شكليات الحبر والصندوق، ومركزيةٍ أثقلت كاهل المواطن وخلقت هوّةً واسعةً بين المركز والمناطق الواسعة الرافضة للحكومة القابعة فيه.

لقد باعدت المركزية الصارمة والمتصاعدة على مدى بضعة عقود مضت بين المواطن ومراكزِ صنع القرار وتقديم الخدمات، حيث كان الإرهاق والعنت والفساد الطريقَ لتحقيقِ كلّ مصلحةٍ مشروعة، ونتج تذمّرٌ واسعٌ وإحساسٌ بالظلم والإقصاء لا تخفى مظاهره. ووقع بين الليبيين بعد فبراير اقتتالٌ وتهجيرٌ، وانتهاكاتٌ للحقوقِ، وإشعالُ فتنٍ؛ واستجدّ تطرّفٌ وإرهابٌ واجهته حربٌ سقط فيها آلاف الضحايا وصاحَبها دعمٌ من بعض الليبيين ضدّ بعضهم الآخر. وفي العاصمة انفردت السلطة المركزية بالتصرف في ثروة البلاد وتوظيفها في جنْيِ المنافع وكسب الولاءات ومواجهة الخصوم، غيرَ عابئة بمساءلةٍ أو حساب.

وهكذا لم يعد في الحال الذي آلت إليه الدولة المركزية الليبية مجالٌ للإصلاح، وأصبحت في عِداد ماضٍ غيرِ قابلٍ للاستنساخ، ما يجعل سلامة الوطن رهناً بنقل القدر الملائم من السلطات إلى المناطقِ والمحلياتِ، واستحداث أسسٍ للتوظيفِ العادل والمتوازن لموارد الدولة، وتوفير الشروط اللازمة للمشاركة والمبادرة المحليتين في صنع القرار، والدفع بهما نحو ممارسة أدوارٍ فاعلة. في إعادة النظر في شكل الدولة باتّجاه النمط الاتحادي، ونقل السلطات إلى أدنى، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة، يكمن علاج المركزية والفساد والعصبية وما أفرزه الانفلات الأمني والأخلاقي من عاهاتٍ، وليس في التقسيم كما ترتفع أصواتٌ هنا وهناك.

لتقسيم سيُفضي إلى إنشاء دويلاتٍ، جميعها أفقر وأسوأ حالاً، رغم أوهام غِنى الموارد أو الكتلة السكانية لإقليمٍ أو آخر

التقسيم سيُفضي إلى إنشاء دويلاتٍ، جميعها أفقر وأسوأ حالاً، رغم أوهام غِنى الموارد أو الكتلة السكانية لإقليمٍ أو آخر. تغوُّل المركزية وسطوة المليشيات واستئثار البعض بثروة البلاد أمورٌ مرفوضةٌ بلا شك من كلّ ليبيٍّ غيورٍ على أمن وطنه ووحدته، حريصٍ على الخير لإخوانه، وعلى مستقبل أولاده وأولادهم حيثما كانوا. ولكي نستعيد استقلال البلاد ونحافظ على وحدتها، ينبغي أن ترتفع الأصوات في أنحاء البلاد، وحيث مركز السلطة، على وجه الخصوص وقبل غيره، رفضاً للواقع أن يستمر وللتقسيم حلاً.

اللامركزية، والتوظيف العادل والمتوازن لموارد الدولة، وتقسيمات إدارية واعيةٍ بانعكاسات الحرب والانفلات الأمني على الواقع الاجتماعي، تمثل - إضافةً إلى بسط الأمن - المدخل الضروري لإنقاذ البلاد، عبر نقاش وطني يجريه الخيّرون المخلصون، من وزن ومعدن صانعي استقلال البلاد ووحدتها، الواعون تماماً بموقع البلاد وتاريخها وعلاقاتها الإقليمية والدولية وما يحيط بها من مخاطر وأطماع.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) تقرير مجلس إدارة جمعية عمر المختار - مركز درنة، المقدَّم إلى الجمعية العمومية للمركز بتاريخ 18 مايو 1948: نورالدين السيد الثلثي، جمعية عمر المختار - وثائق مركز درنة، دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع، ص 37.