Atwasat

وعدم الحرب مشكلة

سالم العوكلي الأحد 22 يوليو 2018, 10:36 صباحا
سالم العوكلي

في تواصل مع الصديق، عمر الككلي، على الماسنجر، سألني عن أحوالي، فقلت له: بخير.. ومازلنا في انتظار الحرب. رد بقدرته المعهودة على تكثيف العبارة: "الحرب مشكلة وعدم الحرب مشكلة". في إشارة إلى الحرب التي انتظرتها مدينة درنة لعدة سنوات كانت خلالها مختطفة من التاريخ والجغرافيا في قبضة جماعات تكفيرية مسلحة، قادمة من خارج المكان وخارج الزمن، تناوبت على حكمها والتحكم فيها، عملت بإلحاح ضد قيام الدولة المدنية أو حتى الدولة غير المدنية، وضد المستقبل برمته.

كان الككلي يدرك أن لا مناص من الحرب في مثل هكذا نزاع، حين يكون الخصم جماعات متطرفة محصنة بنيويا ضد الحوار أو التفاوض أو مقايضة المصالح، تقفل جميع الأبواب ولا تترك سوى طريق واحد مملوءة بالسواتر الترابية والمفخخات للتداول معها، وحينها فعلا تصبح الحرب التي نمقتها جميعا ضرورة، مثلما يغدو حرق الطيور المصابة بالإنفلونزا ضرورة قاسية رغم تاريخ الرومانسية المحتشد بجمال الطيور.

تحاشى قادة الجيش الوطني هذه الحرب لسنوات عدة، وحاولوا عن طريق الوسطاء من البيئة الاجتماعية أو السياسية الوصول إلى حل مع هذه الجماعات يجنب مدينة درنة هذه المعركة

تحاشى قادة الجيش الوطني هذه الحرب لسنوات عدة، وحاولوا عن طريق الوسطاء من البيئة الاجتماعية أو السياسية الوصول إلى حل مع هذه الجماعات يجنب مدينة درنة هذه المعركة، دون التفريط في حقوق الثكالى والأرامل واليتامى من ضحايا هذه الجماعات، وكانت الموازنة بين العدالة والحرب في صالح الحرب في النهاية كوسيلة مطروحة للعقاب حين تعجز الأجهزة القانونية للوصول إلى العدالة بطرق سلمية .

في شهر مارس 2011 - وبعد أن تدخل حلف الناتو تحت قرار حماية المدنيين من آلة القذافي الفتاكة لتظهر التيارات الإسلاموية بكل مستويات تطرفها في قلب ساحة الحراك الشعبي المطالب بإسقاط النظام ـ كنا ثلة من الأصدقاء نجلس حول طاولة في مقهى النجمة المتاخم لميدان الحراك السلمي في درنة، نتداول الحديث حول غبطة ما يحدث وعن أحلام ما بعد انزياح الكابوس، وكل واحد منا تحدث عما يشغله، حرية التعبير، أو لذة المشاركة في انتخابات لأول مرة، أو التفكير في تكوين حزب، أو بناء أبراج في درنة شبيهة بدبي، وغيرها من الأحلام، لكن صديقاً "معكوس" كما نقول في لهجتنا، تحدث عن همه الخاص المتمثل في افتتاح بار في أحد الشوارع الخلفية متمنيا كما قال أن يتخلص من احتساء نقيع الجوارب الذي أضر ببصره وذاكرته، وفي اللحظة نفسها ت تتداعى إلى أسماعنا خطابات المتطرفين الذين استولوا على المنصة بالميدان التي أنشأها بيت درنة الثقافي لتكون منصة للحديث عن الوعي الجديد والديمقراطية ومستقبل البلد. كان الصوت الموتور يتحدث عن الشريعة وحكم الله مهاجما العلمانيين والديمقراطية وطواغيت الدولة مرددا شعار الوهابية الفاشي "الهدم الهدم.. الدم الدم" ، فضحكت وقلت لصديقي الحالم ممازحا، وأنا أمسك بعلبة التبغ على الطاولة: أخاف أن تباع هذه السجائر يوما في الخفاء مثلما تباع المخدرات. وحين قفلت هذه الجماعات بعد سنوات محلات التبغ وحرقت مخزونه، اتصل بي صديقي قائلا: مازلت أتذكر ما قلته كلما ذهبت إلى شارع معتم كي أشتري علبة تبغ مهرب.

استولى التكفيريون على مدينة درنة مستغلين واقعها الاجتماعي كحاضرة لا تتمتع بقوة عشائرية أو قبلية مسيطرة، ورجعوا بها مئات السنين إلى الخلف، وحولوا الساحة التي كان يباع فيها البخور والياسمين إلى ساحة تُحز فيها الرؤوس وتقطع الأيدي وتجلد الجلود، وأخرسوا البنادير والمزمار بعد أن أقفلوا الزوايا الصوفية ـ روح درنة ـ واغتالوا بعض شيوخها الذين لم ينزحوا منها، ونبشوا مقابر "الصحابة" وهدموا الأضرحة، وأحالوا الحياة في درنة إلى مأتم دائم، والمزاج فيها إلى مظهر حداد لا يتوقف، وخيم الظلام على المدينة التي نشرت نور المعرفة في محيطها.

أعمال القتل والخطف والابتزاز والسلب لم تتوقف طيلة هذه السنوات التي لم تتغير فيها سوى اللافتة التي ترتكب فيها هذه الجماعات جرائمها في ظلها

أعمال القتل والخطف والابتزاز والسلب لم تتوقف طيلة هذه السنوات التي لم تتغير فيها سوى اللافتة التي ترتكب فيها هذه الجماعات جرائمها في ظلها، ودعْمُ الكثير من المسؤولين في طرابلس ومصراتة، بمن فيهم بعض من انتخبتهم درنة ليمثلوها في المؤتمر الوطني، لهذه الجماعات لم يتوقف، وفتاوى شيخ دار الإفتاء، الصادق الغرياني، الذي كان يدعو هذه الجماعات للجهاد ضد مؤسسات الدولة الشرعية وضد القبائل المحيطة بدرنة، لم تتوقف. لذلك كانت الحرب ضرورة أو "عدم الحرب مشكلة" وكان لابد من دفع الثمن الطبيعي الذي تتطلبه أية حرب، ما بالك حين تكون ضد إرهاب لا يدين بشيء لأخلاقيات الحرب أو أخلاقيات السلم، ومثل هذه الحرب شبيهة باستئصال ورم خبيث، لا يخلو من الدم الذي يسيل، ولا يخلو من مضاعفات العلاج الكيميائي للحد من انتشار هذا الورم مرة أخرى.
حين تكون الحرب ضرورة لابد منها، لابد للسلام والسلم الاجتماعي الذي تسعى إليه أن يثمر كمعركة أخرى من أجل إرساء قواعد الدولة التي رغب فيها الناس حين خرجوا على نظام كان يعطيهم الأمن والغذاء مقابل كل أحلامهم الأخرى، بأن تتحقق إنسانيتهم وفق ما أنتجه التقدم من قيم حقوقية سامية، ترقى بهم من معيشة القطيع الذي لا يهمه سوى الأمن والغذاء إلى براح الحياة الإنسانية الحديثة.

المجتمع الذي تعيث الحرب في سلامه الاجتماعي خرابا لابد له من إدارة عملية للمصالحة تجعله يتجاوز جراحه وضغائنه من أجل أن يستأنف حياته الطبيعية، وفي حالة مثل درنة تتكرر بعد قرن ــ حيث استطاع الغزو الإيطالي أن يثبت قواعده بالمدينة التي نزلت بها قواته عام 2011 ويسيجها بسور بفصل بينها وبين محيطها، مثيرا الفتن نفسها التي تحركها الآن الفاشية الدينية المتمركزة في مواقع السلطة في العاصمة ــ كان لابد في النهاية من تدبيج ميثاق للمصالحة (ميثاق الحرابي 1946) برعاية السيد إدريس السنوسي الذي بموجبه توقفت كل نزوعات الانتقام وتصفية الحساب حتى تشكل الدولة الجديدة مؤسساتها الكفيلة بإرساء نوع من العدالة الانتقالية، ورغم غياب السلطة الروحية، الآن، متمثلة آنذاك في الأمير الذي أدار تلك المصالحة، إلا أن للحلم بالدولة المدنية سلطة روحية خفية يمكنها أن ترعى مواثيق مصالحة جديدة تجعلنا نطوي صفحة الماضي ونتطلع بعيون أطفالنا إلى المستقبل.

لا نملك إلا أن نسجل في مدرسة الديمقراطية مهما كانت الصعاب لكي نمحو الأمية السياسية وننتمي لهذا العصر

نعم لا نملك إلا أن نسجل في مدرسة الديمقراطية مهما كانت الصعاب لكي نمحو الأمية السياسية وننتمي لهذا العصر، لابد أن يقرع جرس الحصة الأولى في هذه المدرسة ونبدأ بتهجي الديمقراطية مثلما فعلت المجتمعات في بداية طريقها، ومثلما دفعت من أثمان على هذه الطريق، ويجب أن لا تخدعنا مقولات اليائسين الكسالى الذين يصرون على أن الديمقراطية لا تليق بنا أو لا تناسبنا، لأن الديمقراطية إحدى مراحل التطور الإنساني الطبيعي، ولأن الشغف بالحرية والمطالبة بالحقوق غريزة إنسانية، ولأن الفارق بيننا وبين المجتمعات التي وصلت إلى التمتع بتاريخ نضالاتها هو الإرادة، والإيمان بطاقات النفس البشرية الكامنة، والاستعداد لدفع الثمن الإيجابي على طريق الحرية بدل الثمن الباهظ المجاني الذي ندفعه على طريق الطغيان وكل مرة يعيدنا إلى المربع الأول.