Atwasat

وداعا...ركاب رحلة الخطوط الليبية رقم 302

سعاد الوحيدي الأحد 15 يوليو 2018, 01:34 مساء
سعاد الوحيدي

مافتئ الإحساس بالولوج لمعراج كوني يراودني كلما أخذت طريقي نحو شباك الجوازات عبر ممر "المواطنون" عند عودتي لطرابلس، أو عند مغادرتي لها. حيث ما انفك القلب يخفق كل مرة بوله عجائبي تجاه تلك العبارة، وكأن كلمة "مواطن" تحمل روحاً نابضاً يجتاح الكيان. وكان يعتصرني ألم مقلق عندما يحاول البعض انتزاعي من هذه البهجة الطفولية، إذا ما اعتقدوا (وفق ملامحي صعبة التمييز)، بأنني لست ليبية. ويسعون لتوجيهي للممر الآخر... (ممر الأجانب)، الذي انحفر في ذاكرة التيه كوجع فجائعي. في ذلك الأربعاء (27 يونيو 2018) كنت أتشبت ببطاقة الصعود على متن رحلة الخطوط الليبية رقم 302 باتجاه تونس.

(هذه التي وددت لو تقودني حتى الصين حيث أقصد). لكن ذاك بات دون الإمكان الآونة، وقد دمر رفاق السلاح؛ الأشقاء/الأعداء، مطار العاصمة الدولي، وجعلوا من "الأمن" مفردة غير قابلة للتطبيق على مطارات بلادي. بينما انفلت الخاطر يتأمل "ممر الأجانب" ككل مرة، بحسرة لا يفهمها إلا من فقد الوطن لزمن قاهر... ممر موحش ومجعد الوجه، يجعل القلب يتمزق وحدةً وصقيعاً... (كم كنت أكره ممرات الأجانب، ومن يفتقد الوطن ثلاثين عاماً لا أبا لك يكلم). عندما تدفق كسيل جارف من حيث لا أدري جمع من المرحلين، (الترحيل مفردة تطلق على إجبار الأجانب غير الحاصلين على تصريح إقامة، أو عبور على مغادرة البلاد).

ثمة بين الوجود واللاوجود حتماً منطقة وسطى، يفر إليها القلب عندما تضيق به سبل الكون

والذين أخذوا يملؤون ممر الغرباء، كمن ُيقحم في سرداب وجع. كان كل منهم يحمل كيساً من "البلاستيك" لا غير، تكومت أغراضه بداخله؛ وكأن العمر اُختصر في تلك الصُرة. وبملامح مكفهرة، مرتبكة، عاجزة عن التعبير، وأجساد أرهقها الترقب وعصف الانتظار، أخذوا يتقدمون نحو شباك الجوازات الواحد تلو الآخر، وفي اليد ورقة "يتيمة"، تحمل أختام الترحيل.

ثمة بين الوجود واللاوجود حتماً منطقة وسطى، يفر إليها القلب عندما تضيق به سبل الكون، وتختار ذرات الجسد الإبحار نحوها عندما تحتار بشأن علاقتها بالمنطقتين. هنالك فيما يبدو تبدد كياني، وأصبحتُ أخف من ذرة غبار. وقد إكتسحني وجع جنائزي يصعب إختصاره في حدود الحروف. وانزلقت بأوجاعي في ماضي وحاضر تداخلت حدودهما (حادة الأطراف)، ووددت لو انتقلت إلى ذلك الممر "الآخر"؛ ممر الغرباء. لأحضن أوجاعهم، وأقبل رؤوسهم وأعتذر لهم... أعتذر لكل منهم... أعتذر لنفسي، أو أجلدها لهذا التخاذل المزري أمام أحزان هؤلاء. لكنني لم أتحرك، ولم أقاوم دموعاً منهمرة بللت أطرافي، وتساقطت على الأرض. ولم تعد عيناي تنتميان لرأسي، وقد تحررت مني، وتصرفت في مخزون الوجع أمام خطيئة التخاذل. لم يفهم من كان حولي في ممر "المواطنون"، لماذا أبكي، وقد تحجرت حدقتاي على الممر الآخر. ولم أعرف بأي تعبير يمكن أن أشرح لهم كيف أن اختصار حياة إنسان في كيس بائس هو وجع كوني. وأن الغربة جريمة ارتكبتها الإنسانية ذاتها بحق البشر، وأن عابر السبيل المخدول هو تجسد مريع لتقرح الوجود.

على أنه رغم كل هذا التعاطف، والانسحاق المعنوي، إلا إنني لم أتمكن من القفز إليهم، كانوا في منطقة "محرمة" تفصلهم عن المناطق "الحرة"!.. هم في منطقة العبث الوجودي تلك للامنتمٍ. حيث هم ليسوا هنا وليسوا هناك بعد، هم في مرحلة "الترحيل"، بتهمة لا شرعية "هجرتهم"،... وكأن خوض بحار الرمال وعصف الطرقات وصقيع الليالي الباردة الموحشة في طريقهم نحو "فردوس" مدن الشمال، يسحب عنهم صفة الانتماء إلى الأرض، ويجعل منهم مخلوقات من كواكب أخرى، يتوجب عليهم العودة إليها (إلى من حيث أتوا ...).

هذه المنطقة أخذتهم عن الأنظار إلى حيث لا أدري!.. بينما أخذتني خطاي المتألمة إلى طائرة الخطوط الجوية الليبية المتجهة إلى تونس. حيث تهالك جسدي على المقعد رقم ١٤/ممر، في منتصف الطائرة تقريبا، (بالدرجة السياحية حيث يجلس بسطاء القوم). هنالك سيمنحني القدر فرصة غير متوقعة للقاء بهولاء المرحلين. والذين أخذوا يصعدون للطائرة، بعد تكامل صعود الركاب "غير المرحلين" على متنها، ليأخذوا أماكنهم تحت حراسة مشددة في الركن الخلفي. فسارعت بالوقوف لاستقبالهم، وأخذت أحضنهم (أمام دهشة الركاب) واحداً واحداً، وأبكي معهم، وأعتذر لهم واحداً واحداً..... (قالوا لي أنهم من سيراليون، وأنهم يعودون للديار. لأنه لم يبق لهم خيار آخر). وكنت أقول لهم (عذراً..لقد خذلناكم). ثم انقطع الوصال بيننا. كان يجب أن يبقوا في الركن الخلفي، وكان يجب أن يهبط ركاب الركن الأمامي في محطة تونس دون تباطؤ.

هذه المنطقة أخذتهم عن الأنظار إلى حيث لا أدري!.. بينما أخذتني خطاي المتألمة إلى طائرة الخطوط الجوية الليبية المتجهة إلى تونس

في بكين قرأت الخبر بشأنهم في الصحف الليبية: بأن (جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية قام بتنظيم عودة سبعة وعشرين مهاجرا غير شرعي من دولة سيراليون، من المستهدفين من العودة الطوعية الذي تقوم بالاشراف عليه المنظمة الدولية للهجرة إلى بلادهم "جواً"..)، الخبر الذي أريد أن أضيف إليه هنا ما سقط:

لقد رحلوا جواً، وقهراً ووجعاً وانسحاقاً. لقد رحلوا على جناح من اليأس وانكسار الأمل. ولكن كما اختصر بابلو نيرودا الأمر، مع ذلك لن يموتوا. لأنه (‏يموت بطيئًا مَن لا يسافر، من لا يقرأ، .. يموت بطيئًا من يهدر كرامته، من يصبح عبدًا للعادة بسلوكه الطريق نفسه كل يوم. يموت بطيئا من يتجنّب الشغف ودوّامة انفعالاته، تلك التي تُعيد النور إلى العيون وتداوي القلوب المجروحة). وهولاء جذفوا بعنف عكس كل تيار مميت، وانتصروا للحياة في الحراك والمحاولة. مع ذلك أضيف: إنه يموت بطيئًا من لا يمسح دمعة مهاجر مكسور الجناح منهم، (عابر سبيل)، تسلق الوجع بصبر القديسين، لتعانق أنظاره نور الله في كل مكان.