Atwasat

المنتصرون المهزومون

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 22 مايو 2018, 12:41 مساء
محمد عقيلة العمامي

"الانسان يُدمر ولكنه لا يهزم " هذا ما أراد الروائي (إرنست هيمنجواي) قوله في رائعته (العجوز والبحر) التي نال عنها جائزة نوبل. كان العجوز الصياد، قد تمكن من صيد سمكة (مرلين) ضخمة من بعد صراع مرير. كانت بطول قاربه من بعد أن أوثقها به وعاد مجهدا منتصرا؛ غير أن رائحة الدم جذبت الأقراش، فانقضت عليها وتركتها هيكلا عظميا مشدودا بالقارب. ولكن العجوز عاد والزهو يغمره فلقد انتصر على سوء الحظ الذي لازمه أياما لم يصطد خلالها سمكة واحدة، أحس أنه لم يهزم؛ كل ما حدث أن حظه العاثر دمر سمكته العملاقة، صحيح أن "الأقراش" اللعينة التهمت جهده وكفاحه، ودمرت حلمه بما يعود عليه منها، ولكن إحساسه بالانتصار غمره بالتوافق مع نفسه بل وأنساه تعبه ومعاناته.

ليس هناك من إحساس مدمر يضاهي إحساس المرء بالهزيمة، إنها العدو المرعب له، فالخيبة التي تصيبه من الهزيمة تخلق في أعماقه نزعة عدوانية لا يمكن التكهن بحجم العنف الذي يتوالد منها. والعمل العدائي التي ينتج من الإحساس بالخيبة جراء الهزيمة يأخذ صورا وحالات متعددة قد تصل حد الانتحار، ناهيك عن سلوك عدائي يتمكن منه وينفذه المهزوم تجاه أسرته وزملائه... ووطنه. إن فقدان المرء لتناغم روحه بسبب سوء سلوكه يعد من أخطر أنواع الهزيمة ولا يمكن أبدا التكهن بردود الأفعال جراء فقدانها.

الهزيمة تخلق انفعالات يصعب السيطرة عليها، ولقد أكدت أبحاث أن 75% من أمراض المعدة والأمعاء سببها الانفعالات. العالم الفيلسوف (وليم جيمس) عرف الانفعال بأنه: "حالة عقلية تظهر عن طريق تغيرات حساسة في الجسم، فكل انفعال تصحبه تغيرات في العضلات، والأوعية الدموية، والأحشاء، والغدد الصماء... وتنتمي أغلب الانفعالات إلى إحدى المجموعتين: انفعالات سيئة، وانفعالات سارة وفي الوقت الذي تخلق فيه هذه الانفعالات أثرا طيبا في الجسم، مثل الأمل والفرح والمحبة والرضا والشجاعة، تخلق الانفعالات السيئة، كالهزيمة التي تتضمن الغضب، والجزع والخوف والإحباط أمراضا سيئة ومتعددة..". ولعل أوضح دليل هو حالة ارتفاع معدلات ضربات القلب. والتقلصات التي نحس بها في أمعائنا عندما ننفعل.

قال لي ذات مرة خليفة الفاخري عن شخصية مزعجة: "يخرج من بيته بمغص معوي في الصباح ويعود بمثله في المساء.. يا أخي أنه يحسد الناس على أنفاسهم ". الحسد انفعال سيء يزيد من ضغط الدم، والغل يزيد من كريات الدم الحمراء ويتخثر الدم وترتفع نبضات القلب. الانفعالات تتسبب في (التليف العضلي) وفي سرعة التنفس والقوة الشافية هي في الانفعالات المبهجة، كالتجاوب مع الانفعالات البسيطة، كحب الناس، والتعود على البهجة، والابتعاد عن المكدرات.

ما أريد أن أقوله هو أننا قد نسير في طريق دمارنا، ولكننا لم نهزم هم الذين انهزموا هزمهم الطمع وحب المال، والاستهتار بعقول الناس، يخدعون أنفسهم معتقدين أنهم ليسوا مكشوفين. هم من يعيشون بانفعالات ستعود عليهم وأسرهم بالخزي والعار.. والأمراض.
زمان في نواكشوط تعرفت عبر رفيق رحلتي، على شخصية دمثة غاية في الكرم والصمت المطبق.. والهدوء العجيب. كان قد دعانا إلى بيته، وتأخر الليل فأصر أن نبيت عنده. وعند الفجر صحونا على صراخ مرعب، واكتشفنا أنه صادر من مضيفنا وعندما هممنا بالدخول عليه لمعرفة السبب كان خادمه، الذي يبدو أنه يتوقع ذلك، أمام غرفته، فهدأنا وأخبرنا أنها حالة تلازمه أغلب الليالي.

وفي اليوم التالي كان الرجل مثلما عرفناه هاديئا وكأن شيئا لم يحدث. لم يطل الوقت حتى اكتشفنا أنه كان ممن آذوا الناس، ومن بالغوا فيه حتى أنهم قتلوا وشردوا الأبرياء من أهاليهم، وما كان فيه في نواكشوط من ترف هو مكافأة عما قدمه لمرؤوسيه . لقد نال المال والجاه ولكنه فقد راحة البال ولم يتمكن مطلقا من التعايش مع ضمير لم يرحمه. علمت بعد سنوات أنه انتحر.

لا ينبغي أن يتمكن منا الإحساس بالهزيمة. الأفضل أن نأسى عمن اعتقدوا أنهم هزمونا. إنهم فقط نهبونا، فهم مجرد عاهات لن تهنأ مهما ادعوا لأنهم انتصروا على العزل، والكهول، والثكالى فقط، ولكنهم انهزموا أمام ضمائرهم .. وأي قلق أبشع من ذلك، وأي نهاية تنتظرهم.