Atwasat

لماذا النقطة كانت رابعة؟

محمد عقيلة العمامي الإثنين 07 مايو 2018, 11:44 صباحا
محمد عقيلة العمامي

وجبة (الفتات) ابتكار صحراوي. في واحة الكفرة تذوقت هذا الطبق أول مرة في حياتي. إنه مُكون من رقائق عجين دقيق قمح مخلوط بالكركم، وغير مختمر، ناضج في تنور مسكوب فوقه صلصة قرع عسلي بلحم الضأن. كان طبقا رائعا. في المدن يعدون هذا الطبق بلفائف خبز الشاورما. اشتهيت ذات ليلة (نص تن بالهريسة) لم أجد خبزا، أعددته بخبز الشاورما؛ ولكنني لم أجد فيه الطعم الذي أريد. ولعل سبب ذلك هو غياب الخميرة.

معلوماتي تقول أن "خميرة الخبز" ابتكار فرعوني، فالخبز، أو (العيش) هو الإسم المتداول للخبز، تماما مثلما نطلق على الخبز في ليبيا (النعمة). لولا الخميرة لما وجد هذا الخبز ومشتقاته العديدة من (بيتسا) و(كرواسان) و(موفن) وبقية هذه الابتكارات التي صار لها سوق قد يكون هو الأكبر باتساع العالم.

منذ خمسة آلاف عام، مثلما يقول مؤرخو الحضارة الفرعونية، ترك، أو تركت سيدة فرعونية بعضا من عجين دقيق القمح المبلول معرضا للهواء مدة طويلة فسقطت به، قد تكون بذور نباتات حملها الهواء، فتخمر وانتفخ وتحصل على رغيف منفوش لا يختلف تماما عن الرغيف الذي أنتجته لنا كوشة (حمادو) أو (الطرلي) في بنغازي ولولا هذا الاكتشاف لوقف الخبز عند تلك الفطائر الرقيقة، كالتي تستخدم للشاورما أو للفتات.

والعجيب أنه حتى اكتشاف الخميرة لم ينتبه الإنسان إلى أهمية القمح كغذاء أساسي للبشر وللمواشي أيضا، ولولاه لضاقت الدنيا على الإنسان والحيوان وعجزت الأرض عن سد احتياجاتهم من الغذاء. الإنسان بطبعه حيوان نباتي، لم يخلق أساسا ليكون آكل لحوم وإلاّ لمنحه الله مقومات آكلى اللحوم كالأنياب الطويلة والقوية، وسرعة لمطاردة فرائسه وقوة لافتراسها. فهو حيوان نباتي من دون شك، ولكنه طور إمكانياته وابتكر الأسلحة الفتاكة التي يقتنص بها الفريسة، وهو متكئ على جدار كهفه، فلقد ابتكر النبال والسهام وتعلم القنص. ولولا القمح لكانت حاجة الفرد إلى مساحة تقدر بعشرين كيلومتر مربع من أرض مناسبة للصيد، في حين أن المساحة نفسها إن حرثت وزرعت تطعم خمسة آلاف نسمة!

زراعة الحبوب، إذن، تعد من أهم اكتشافات الإنسان. ولولا الخميرة ما كان يتحقق هذا الاكتشاف بهذه الصورة المرضية الفعالة؛ ولولاه لعجزت افريقيا كلها عن إطعام دولة واحدة من دول هذه القارة. ويرجع العلماء قصة الحضارة إلى القمح؛ فبسبب الحاجة إليه وظفت النجوم لمراقبة المواسم المناسبة لزراعته فتطور علم الفلك وأصبح أساسا للتقويم والرياضيات، وتطورت وسائل الزراعة والري والسدود وبسبب ذلك تمكن المزارعون من حصد محصول من القمح كل يوم في بقعة ما من العالم. وأصبح من كل خمسة هكتارات من الأرض الصالحة للزراعة في العالم هكتارا مزروعا بالقمح، ويعد إنتاجه أكبر من أي محصول غذائي آخر، وتتساوى مساحة ما يزرع منه مع ما يزرع من الأرز والذرة معا. ولعله من المفيد أن نعرف أن منتجات القمح تمدنا بحوالي ربع البروتين الذي نحتاجه في غذائنا بالإضافة إلى ما يقرب من نصف حاجتنا من بعض الفيتامينات. وبلغت أهميته أنه إن اضطر الإنسان إلى العيش على نبات واحد فالقمح والماء كفيلان ببقائه حيا.

ولأنني أعرف أن سهل المرج تحديدا كان يطلق عليه إبان الاستعمار الإيطالي صومعة قمح إيطاليا، وملحمة (بابور بالا) الذي غرق في مدخل ميناء بنغازي سنة 1930 جنح بسبب القمح الذي كان يملأ عنابر السفينة فغرق والناس يشهدونه من بحر الشابي. ولقد شاهدت في طفولتي تلال القمح المنتج محليا في (الفعكات وتيكه وقمينس) تباع بالصاع وتشتريها العائلات بالصاع مثلما يشترون الفجل والبصل، فينقي ويطحن ويغربل ويعجن ونحمله أطفالا إلى كوشة الشارع، ونهدد الكواش بحرق (الكش) إن سقط (القنان) في العين. وعرفت فيما بعد، خصوصا إبان حكم القذافي، أهميته الاستراتيجية، ومحاولة الإمبريالية تركيع كل حكم يتطاول عليهم بحرمانه من القمح، فلقد استخدم سلاحا شديد الفاعلية للضغط السياسي ضد الاتحاد السوفيتي، ومصر وليبيا.

أما أساس كتابة هذا المقال فبسبب حادثة ظلت مخزنة في ذاكرتي منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، ولا أدري كيف خطرت عليّ البارحة مفادها أن أمريكا بعثت بباخرة محملة بالقمح كمساعدة لموريتينا إبان كارثة بيئية فأصرت إدارتهم الجمركية على ضرورة سداد الرسوم الجمركية، حاول القبطان إقناعهم أن الشحنة هدية من الشعب الأمريكي ولكن بلد المليون شاعر أصروا على أن القانون لابد أن يطبق وليس به ثغرة واحدة تعفي هذه الشحنة من تحصيل الرسوم المفروضة عليها، فما كان من القبطان إلاّ أن أفرغ الشحنة في البحر وعاد إلى بلاده. وتذكرت حقيبة مدرسية أعدتها لي والدتي في خمسينيات القرن الماضي من شكارة قماش بيضاء مرسوم عليها كفان متصافحان أحدهما علم أمريكي كانت لدقيق قمح توزعه النقطة الرابعة كمساعدات أمريكية لليبيا التي كانت عند استقلالها واحدة من أفقر دول العالم! ولقد رأيت مؤخرا علامة الأمم المتحدة على كراتين مساعدة نازحي تاورغاء، فتساءلت هل سيعود بنا الحال ونرى حقائب، ليست بالضرورة من قماش، ممهورة بعلامة الأمم المتحدة؟ وهل ستسرق مثلما كانت تسرق مساعدات النقطة الرابعة؟
لقد حاولت أن أعرف لماذا تسمت الجهة الأمريكية التي قدمت لنا المساعدات بالنقطة الرابعة؟ ولكنني لم أفلح، فهل من معين؟.