Atwasat

من تاريخ الحركة المناهضة للنسوية

عبد الكافي المغربي الخميس 03 مايو 2018, 10:50 صباحا
عبد الكافي المغربي

لم يتداع سلطان الآلهة الأم تحت طرقات المحاربين والصيادين ليعيده إليها أحفادهم الفلاسفة والفنانون والكهنة. هنا نتعقب تطور مشاعر الكراهية للأنوثة مع تقدم التاريخ، ملتزمين باستعراض مواقف الفلاسفة والأدباء الساخطين على النسوية بدقة، فيما نصْرف النظر عن رأي الأديان التي عُرِفت باضطهاد المرأة أو تعطيلها.

تتصاعد مشاعر الاستياء من الوجود الأنثوي مع بلوغ الحياة الأرضية منازل من الانحطاط لم يسبق لها الدنو منها، وهذا مما يتصل بالتصور الأسطوري الجاهل بحواء الديانات الإبراهيمية، الذي يدين الأنثى كثيرة الفضول بنفي الإنسان الأول عن الديار السماوية وتخليد نسله في معيشة بائسة على الأرض. ففي شعر هزيود ألد خصوم المرأة في اليونان ما قبل الكلاسيكية، تجد أن الآلهة سلطت المرأة على الإنسان الذي بدأ يتعرف أسرارهم، وأنها خلقت لتحمل كل الصفات المرذولة وتشغل بمواهبها الإروتيكية الإنسان عن أن يصبح إلهاً. كان الفقر وانتصار القهر فوق الأقنان وصغار الفلاحين، وإقصاء هزيود عن بلاط الأرستقراطية الذهبية ما هيأه ليكون أديباً لعاناً للمرأة، التي حملها كل ما يثقل كاهله ويضني أحبابه الصعاليك من آلام وأحزان. إن الأم بالنسبة له هي من تجب مساءلته عن عذاب الأبناء، إذ إنه لو لم توجد عشيقة، ما وُجد الآباء، وما شَقي الأبناء. ونميز في شعر هذا المتأغرق نغمة أبي العلاء المعري: يا ليت آدم كان طلق أمهم

رغم ذلك يجد الشاعر نفسه محمولاً على قبول الواقع الذي فرضته الآلهة مع تحفظ بين. ذلك أنه في الحياة مرارة لا يطيقها الرجل المنفرد بنفسه إذا استحال كهلاً ولم يكن له ولد يؤنسه ويأخذ بيده، وفي النظم الاجتماعية تعقيدات تحتم تقسيم ثروة الرجل الذي لم يعقب على الأباعد من عشيرته. ويعدد هزيود نصائحه المشددة، ويجعل اختيار الرفيقة الفاضلة أمراً شاقاً، ويحذر من إكثار النسل لئلا يفتقر الأبناء. ويمكن القول إن الظاهرة الهزيودية مثلت باكورة الجحود اليوناني في اعتراضها على الأقدار وتشككها حيال القوى السماوية وإرادتها الخير بالإنسان.

ولم ينصف قيام العقل المرأة التي حاقت بها الهزيمة من قديم. وانقسم الموقف الفلسفي الكلاسيكي بين جهل سقراط المتجول في أزقة أثينة فراراً من زوجته السمجة، وعدم اكتراث أفلاطون الذي كان يؤلمه أن يتعثر غلام في بقعة نائية من جزيرة أنقلترة أكثر مما يضايقه أن تصفع فتاة مسالمة بكف رجل مؤذٍ. بيد أن فلاسفة اليونان لم يعتنقوا مذهب هزيود فيما نعلم.

وبرغم التقدم الهائل الذي كانت الحضارة الإنسانية قد أحرزته مع طلوع شمس أول يوم من القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن التفكير الأوروبي قد توفر على قدر من الاتساع والتنوع والعمق يخلب العقول، لم يكد يخلو منزل في أوروبا من ربة البيت التي تطهو، وتهيئ الجو لراحة بطلها وافر المواهب، وتروح وتغدو لتلبية طلباته.

وقد فزِع مفكرو أوروبا استشفوا ملامح الخطر في مطالب سيدات المجتمع الغربي، ورأى بعضهم في ذلك نُذُراً تقوض البطريركية الأبوية التي عززت الأخلاق منذ الأزل، واحتج بعضهم على السلبيات الناشئة من تهافت السيدات على كل صغيرة وكبيرة من الحياة العامة. فمنهم روسو الذي يهابها مع استصغاره لها، وكان الذي لا يعبأ بها، وشوبنهاور جاحدُها، ونيتشة المتسامح معها على مضض، وماركس الذي نسيَها في سعيه الخطير لتغيير العالم.

اكتشف آباء الفلسفة الغربية الذين تنحدر إليهم دماء من أنزل الأنثى عن عليائها السماوي كيف أن ما نزلت عنه المرأة في الأزمنة الأنتيكية مقابل حمايتها بدأت تستعيده مع استقرار المدنية الأوروبية وازدهارها، وما هداه الازدهار لها من جاذبية شخصية واستنارة عقلية وذوق عام.

ولا شك أن الخلفيات الاجتماعية في حياة كل من روسو وشوبنهاور كانت تصوغ لهم تفكيرهم الرافض نهج المرأة التحرري في الغرب إلى جانب إرث من الهيمنة الذكورية لم ينقض بنيانه العتيق آنذاك. وما يثير إعجابنا، وما هو أدعى لدهشة روسو، الروح الوثابة التي انتقلت المرأة الأوروبية بفضلها من مرحلة التلمذة إلى الأستاذية، كيف استهلت مغامرتها جاهلةً بالكاد تتحسس طريقها في كتب الرجال، حتى انتهى بها الحال إلى أن تعلم الرجال كيف يكتبون. ويستدعي حسد مؤلف العقد الاجتماعي المطالب بإبعاد النساء عن الحياة العامة وعودتهن إلى بيوتهن، أن السيدة الغربية باتت تملك سحر البلاغة وسعة الثقافة بالزيادة إلى جمالها القديم، وأنها باستثمار هذه وتلك من مواهبها كانت تُغير على منظومة الأخلاق وتنصر الرذيلة على الفضيلة. ومشكلة علم الأخلاق أن الأخلاقيين كثيراً ما يقولون ما لا يفعلون، كالشعراء مَثَلاً، وأنك تشك في كل من يكثر الذم في الأخلاق الجنسية الشاذة. ولم يفلح روسو في تفادي الخطأ حينما زعم أنه ما كان ليكون عاشقاً إن لم يتحدث أحد أمامه عن العشق.

وأما شوبنهاور المتعصب الجنسي فيقرن تقززه من سيدة المجتمع المثقفة التي تعيد إلى ذاكرته ملامح مؤلمة من حياته كطفل ومراهق، نقول هو يقرن هذه المشاعر باشمئزازه من ذلك الرضيع البكاء الذي يمضي الرجال جميعهم ربيع حياتهم في سبيل الفوز به دون استئذانه، بحسب شوبنهاور. إن شوبنهاور لا يكره المرأة كونها موضوعاً للمتع، بل بالعكس، فهو يشجع نظام تعدد الزوجات في الشرق، وكذلك قاده الاشتهاء الجنسي المذل إلى بقع من الانحطاط والرداءة لم يتصور يوماً أنه قد يرتادها. لكنه متشائم مطلق التشاؤمية، فليس هو المحافظ الذي يعمل على إصلاح ما أفسده الفلاسفة، وليس بالمفكر الذي يجلس في مكتبه منهمكاً بتفسير العالم، وليس هو من يسعى إلى تغييره. إن شوبنهاور فيلسوف أرعبته قتامة عصره، قد طفح به الكيل من الشر ولم يتعلم كيف يسايره، وهو يلعن المرأة ليلاً ونهاراً لأنها تمتحن الرجل وتمنحه السم الذي يخاله عسلاً، ثم تنتظر منه أن يتعهد هديتها بالرعاية إلى آخر لحظة. يتساءل شوبنهاور، أنى للشقاء أن يصل إلى أقصى مداه لو لم يوجد وعاء الحياة.

إن ما نشهده اليوم من تفكك الأخلاق الجنسية الأوروبية نشأ من أن حضارة الغرب قامت على الغرائز المكبوتة، وأن كسر التابوات في الحاضر حل محل ورع الأمس. كانت أمم الغرب فيما مضى أكثر الناس تحفظاً في المسائل الجنسية، وهي اليوم أكثرنا تحللاً من قيود الاحتشام، بحسب أحد المفكرين. لقد كانت المرأة تتقدم بإيعاز من أعدائها أكثر من هتاف مشجعيها، كما أن الوعي بالحرية يزداد كلما اشتد الظلم. ولم تزل الأنثى في كل بقعة من أرضنا تهب المسرة، غير أنها في الغرب غدت أكثر اهتماماً بنفسها وأقل اكتراثاً برفيقها وأولادها، وأشد ميلاً إلى مطالبة الرجال بأداء الواجبات التي ألزمتها في الأمس.

ألهمتنا قراءة المؤلفات الآتية كتابة هذا النص
قصة الحضارة، المجلد السادس حياة اليونان
كتاب الأخلاق أحمد أمين
مجموعة مقالات في الأخلاق والضمير لمحمد مندور صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب من إعداد طارق محمد مندور
فلسفة الأخلاق فريدريك نيتشة
شوبنهاور مربياً فريدريك نيتشة
الفلاسفة والحب ماري لومونيه وأود لانسولان