Atwasat

ركن العامرية… الرياضيات وما أدراك ما الرياضيات

فدوى بن عامر الأربعاء 11 أبريل 2018, 08:25 صباحا
فدوى بن عامر

صعد إلى المنصة معرّفًا بنفسه "اسمي ديفيد سبيغلهولتر قادم إليكم من جامعة كمبريدج لأحدثكم عن أهمية تعليم الإحصاء في زمن استغلال هذا العلم إعلاميًا…."، وشرح لما يقارب من الستمائة معلم وأستاذ رياضيات قدموا من جميع أنحاء المملكة المتحدة لحضور مؤتمر الرياضيين. أشار المتحدث إلى أن ضعف المعرفة بالإحصاء لدى عامة الناس سمح للإعلام بقنواته المتلفزة والمسموعة وصحفه ومجلاته بتوظيفها، للوصول لأهداف في الغالب سياسية واقتصادية، وفِي نهاية المحاضرة أسرعتُ لتحيته وكم كان حديثه متزيّنًا بتواضع جمّ ولطافة لا حد لها من رجل يُعد أحد أهم الرياضيين والإحصائيين في بريطانيا وخارجها على السواء. هو برفيسور ورئيس فريق من الإحصائيين في جامعة كمبريدج المتميزة، بالإضافة إلى تحصله على لقب Sir من الملكة إليزابيث الثانية لما قدمه من أعمال ومؤلفات عديدة.

أما محاضرة توم ربير فكانت عن علاقة الرياضيات بعالم الحيوان، وكم كان مثيرًا ماساقه من أمثلة أجملها على الإطلاق كان حديثه عن سلوك طائر البطريق الأنيق، الذي أجبرته ظروف الحياة في درجة حرارة أربعين تحت الصفر إلى التعاضد بطريقة رياضية فذّة، وذلك لبعث الحرارة في جسده المتجمد حيث تقف الطيور في صف واحد طويل ثم تبدأ بالالتصاق مع بعضها مع الحركة ببطء وبشكل حلزوني مكونة دائرة، وبهذا ترتفع درجة الحرارة في مركزها وعندما تصل لدرجة أربعين فوق الصفر، تبتعد الطيور عن بعضها للسماح بدخول الهواء البارد، كما أن حركتها بشكل حلزوني تسمح لكل طائر بالتنعم بالدفء. ما يحاول طائر البطريق تعليمه لنا هو عندما تُفتح القبور على مصراعها بدلا من تفتّح ورود الربيع، حينها علينا جميعًا تناسي كل خلافنا واختلافاتنا والالتحاف جميعًا بالجرد الليبي علّنا ننعم ببعض الدفء هذا إن كان لدينا شيء من منطق الطير الحكيم.

نيكي نييل أستاذة رياضيات عملت في جامعة كمبريدج وتعمل حاليًا في جامعة أكسفورد العريقة، محاضرتها كانت عن الأعداد الأولية!. هذه المرأة التي لم تتجاوز الثلاثينيات من العمر لها كتاب في الرياضيات كذلك حائزة على درجة الدكتوراة ولَم تتزوج بعد!. دار خاطر في رأسي بالخصوص وكنت جالسة في أول مقعد مقابل لها، فنظرت إليّ وكأنها قرأت ما دار في رأسي وكأنني قرأتُ الإجابة في عينيها… لكنني لن أجرؤ على إخباركم.!

وأما دكتورة رووث ميرثنز فقد حدثتنا عن أسس تعليم الرياضيات لمن هُم في الخامسة من العمر. أربعون عامًا من الخبرة علَّمت المئات أو ربما الآلاف وربّت ستة أطفال من صلبها. حاليًا بدرجة برفيسور ولازالت معلمة أطفال ورئيسة جمعية لتدريب المعلمين دون مقابل. رسالتها الأولى لنا كانت "يجب علينا نحن أساتذة الرياضيات تدريب الطفل منذ الصغر على التفكير حتى تتطور لديه الآليات الضرورية لوضع استراتيجيات خاصة به فتنمو قدرته على المفاضلة بينها واختيار المناسب له لحل المسائل الرياضية ومن بعدها الحياتية… لا يتعين علينا أبدًا تلقين التلاميذ طريقة واحدة لحل المشكلات وإلا نكون قد فشلنا تمامًا في بناء الإنسان… فشلنا تمامًا." ولا زلتُ أكرر كلماتها تلك وأنا أكتب كلماتي هذه... قد "فشلنا تمامًا في بناء الإنسان.. فشلنا تمامًا". رددتْ قالتها تلك وهي على المنصة حافية القدمين- ربما لألم بهما- وعندما انتهت من محاضرتها الملهمة سألتها "كيف أنجزتِ كل هذا وأنت أم لستة أطفال" نظرت إليّ بعينيها الزرقاوين وبابتسامة جميلة أجابتني "بالكثير من الصبر والجهد وعدم التوقف عن العمل مهما كانت الصعاب".

خرجتُ يومها من القاعة إلى صالة الاستراحة وهناك كان جالسًا شيخ كبير ضعيف الهيئة قد شقّت الأخاديد وجهه بقساوة شديدة خُيل إليّ أن عمره قد جاوز قرنًا من الزمان. ألقيت عليه التحية فابتسم لي بدفء عميق مما شجعني على تبادل أطراف الكلمات معه. تبين أنه برفيسور متقاعد لكنه لازال يعمل في الجامعة بدون أي مقابل مادي… فتح حاسوبه ليطلعني على ما كان يقوم به من أعمال رياضية بديعة… يا إلهي ما الذي يحدث للإنسان عندما يعشق عمله؟ أتنبعث فيه همّة غير متناهية..

استيقظتُ من خاطرتي حال تذكري موعد العشاء والذي كان خاصًا جدًا تلك الليلة لأن البرفيسور هانا فري ستكون ضيفة الشرف وستلقي كلمة في الأثناء كنتُ بشوق كبير للاستماع إليها. ولَم تخيب ظني تلك الثلاثينية ذات الشعر الأحمر البالغة الجمال والذكاء والبهاء صاحبة ثلاثة كتب مصفوفة على أرفف المكتبات والرابع سيُنشر نهاية هذا العام كذلك لها مجموعة كبيرة من الأعمال والمقابلات المتلفزة والمسموعة. دار حديثها عن دور الرياضيات المهم في كل مناحي الحياة كالموسيقى، الفلسفة، التاريخ، علم الجريمة وغيرهم وشرحت اهتماماتها الخاصة المتمثلة في دراسة علاقة الرياضيات بسلوك الإنسان وتأثيرها على حياته وكيف أنها قد تساعد – الرياضيات- على النجاح في اختيار شريك الحياة المثالي بنسبة 90% ولا تسألوني كيف!.
وفِي صباح الْيَوْم التالي تصادفتُ مع فتاة عشرينية ذات عقل رياضي فذّ زكّته جامعة هارفارد الشهيرة بإعطائها شهادتين، الأولى في الرياضيات والثانية في التعليم وأردفتهما بشهادة الماجستير في الرياضيات ودكتوراه من جامعة كمبريدج. أعربت لي الشابة عن إعجابها بالمؤتمر لكنها عابت على القائمين عليه لإتاحة فترات طويلة من الراحة بين المحاضرات المتتابعة!.

ثم مررتُ على مكتبة الجامعة وابتعتُ كتابين الأول كان عن تاريخ ليبيا والثاني كتاب هانا فري بعنوان الرياضيات والحب. ماذا أقول عن هذا العلم وعن ذلك العالم..! هو علم الرياضيات وما أدراك ما الرياضيات وذلك عالم الحضارة وما أدراك ما الحضارة.