Atwasat

الثورة الفرنسية المستمرة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 09 أبريل 2018, 08:50 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قال نابليون: "لقد فُرض علينا غزو أوروبا بالسيف، ولكنني على يقين أن من يأتي بعدي سيغزوها بالروح، فالروح دائما أقوى من السيف". ومن بعده بأقل من قرنين؛ قال مستشار ثقافي فرنسي اسمه (بول تسييه) كان في سفارة روما، ثم نُقل إلى تونس: "لاحظنا أن الأفكار التي تبناها زعماء الحرية الجدد في مستعمراتنا في أفريقيا، تحوى كلمات فرنسية لم يكن لها مرادف في لغتهم أصلا، ولكنها تكررت في خطابهم مثل: (أمة)، و (حرية)، و (ديمقراطية) وغيرها من كلمات تحمل الكثير من الأفكار، التي يريدون من خلالها تكوين دولة ". ولعل هذه النتيجة هي التي أشار إليها نابليون وأطلق عليها مصطلح الروح.

من الكلمات التي رأيتها مكتوبة على حافلات وعدد من المدارس منذ زيارتي الأولى إلى مصر سنة 1963 ثم سمعتها فيما بعد، من أبناء عدد من الطبقات النافذة، وكذلك البورجوازية هي: "الليسيه" ، ثم عرفت فيما بعد أن هناك تسميات مثلها لمدارس في لبنان، وتونس والجزائر والمغرب، و لندن، وطهران ونيويورك وجزر مورشيوس؛ وباختصار شديد معظم دول العالم. هذا ما جعلني أبحث عن معناها، لأعرف أنها تعني باللغة الفرنسية مرحلة الدراسة الثانوية.

لقد أقيمت مدارس الليسيه في معظم عواصم العالم، حيثما تتواجد الدبلوماسية الفرنسية؛ منهاجها هو المقررات لمدارس الثانوية في فرنسا، وسبب انتشارها، هو خدمة أبناء رجال سفاراتهم في العالم كله، بمنهج موحد بالسفارات كلها، فبمجرد أن ينقل دبلوماسي من سفارة إلى أخرى بمقدور أبنائه أن يواصلوا دراستهم في اليوم التالي للمنهج نفسة. ثم توسع نظام هذه المدارس وأصبح بمقدور مواطني تلك الدول الدراسة في هذه المدراس سواء تلك التي أقامتها السفارات أو في مدارس خاصة خاضعة لنظم التعليم الفرنسية وإشرافها.

لقد أقرت فرنسا هذا النظام وطبقته بدقة متناهية، فحققت هدفين: الأول، ربط أبناء فرنسا المغتربين ببلادهم، والثاني، قد يربط زعماء البلدان الجدد الذين أقيمت المدارس في بلدانهم بفرنسا. ولقد تحقق لهم ذلك. ولعله من المفيد أن نعرف، على سبيل المثال، أن الشخصيات التالية كانوا تلاميذ سابقين في ( ليسيهات) فرنسا في مختلف الدول: الأمير سيهانوك من كمبوديا، تقي الدين الصلح، وهو وزير سابق لداخلية لبنان، وثلاثة أميرات السويد (بريجيتا، ديزيريه، وكريستينا)، والمصري بطرس غالي، الذي تولى منصب الأمين العالم لهيئة الأمم المتحدة.. وعدد كبير من مهندسين وسفراء وعلماء ودكاترة في المجالات كافة، يشكلون خليطا من مختلف جنسيات العالم. ولقد أكد المسئولون الفرنسيون في أكثر من مناسبة، أنه كلما كان الطرف الآخر يتحدث الفرنسية بطلاقة كلما زادت قدرته على عرض آرائه بفاعلية أكثر. وهذا، على نحو ما، تحقيق لما قالة نابليون.

لقد حققت فرنسا هذا المشروع الجبار بتركيزها على تأهيل مدرسين أكفاء، تكون غايتهم مساعدة الطلبة وتوجيههم نحو التهذيب المهني والتفكير العملي المنطقي، والحرص على تقديم كل ما يحقق معرفة واسعة وقدرة على التحدث والكتابة باللغة الفرنسية، وذلك ما كان سببا في الاحترام الدولي الذي تتمتع به مدارس الليسيه الفرنسية، حتى أن أحد مدراء التعليم في لبنان قال عنهم: "إنهم ليسوا مدرسي فصل فحسب، وإنما مستشارون في التربية تلجأ إليهم الدول للاستفادة من خبراتهم".

وإدارة العلاقات الثقافية بوزارة الخارجية هي مسئولة، مثلما تقول المعلومات، على توفير أكثر من 400 مدرسة "ليسيه" في روما ولندن ومدريد ونيويورك وعدد كبير من دول التحالف الفرنسي، وكذلك في المكسيك، وكولومبيا، وتشيلي.. ودول كثيرة أخرى، ولعله من المهم معرفة أنه في إيران وحدها بلغ عدد مدارس الليسيه سنة 1965 حوالي 195 مدرسة، وبسبب ذلك انتبهتُ لماذا وصل فرنسا أكبر عدد من الذين هاجروا من إيران بعد سقوط نظام الشاه؟.

مثل هذه المعلومات تجعلنا نتساءل؛ لماذا لم توجد مدارس "ليسيه" في ليبيا على الرغم من علاقاتها القديمة بجنوب غرب ليبيا؟ وكيف لم يتحقق ذلك في ليبيا كلها وهي المحاطة بهذه المدارس القائمة بالدول المجاورة لليبيا كافة، بما في ذلك السودان الذي لا أعتقد أنه كان له علاقة تاريخية استعمارية مع فرنسا؟.

هل فكرت فرنسا، من بعد فبراير، في إقامة (ليسيهات) في ليبيا؟ وهل فكر الليبيون في العمل على إقامتها؟ إنهما سؤلان مهمان سوف نجد إجابات عنهما بعد أن يتحقق الاستقرار، وهذا أمر ليس صعب المنال على الرغم من أن الواقع، مثلما يقول المتشائمون: بعيد الاحتمال، ولكننا نعلم أن فرنسا من بداية ثورة فبراير وحتى الآن من الدول الرئيسة والفاعلة في الشأن الليبي للمساعدة في جعله أمرا قريب الاحتمال.