Atwasat

النهر والبشر

يوسف القويري الأحد 11 مارس 2018, 11:46 صباحا
يوسف القويري

ينسابُ منذ الأزل الجيولوجي نهر النيل - ثاني أطول أنهار العالم - بسرعة تقارب كيلومترين في الساعة من منبعه جنوب خط الاستواء إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط.
ويصل إجمالي طوله العام إلى ستة آلاف وخمسمائة كيلومتر، بعرض سبعمائة وخمسين متراً في المتوسط. أما طول مجراه عبر مصر فيبلغ ألفاً وخمسمائة وثلاثين كيلومتراً باحتساب بسط تعاريج الضفاف.
والمنبع الأولي للنيل توفره سلسلة "جبال القمر" البركانية - ذات التسمية الاسطورية الأفريقية - الكائنة على هضبة البحيرات السبع بارتفاع خمسة آلاف متر حيث تنهمر هنالك الأمطار بغزارة طوال السنة مُتَحَدِّرَة في مجارٍ سريعة وقوية من ذلك العلو الشاهق نحو المنبع الرئيسي للنيل - أي بحيرة "فكتوريا" الاستوائية العذبة التي تبلغ مساحة حوضها تسعة وستين ألف كيلومتر مربع. وتؤازر النيل روافد من أنهار ونهيرات تصب فيه مباشرة وعلى الدوام، نابعة من البحيرات الأخرى المجاورة لبحيرة "فكتوريا".
وخلال الصيف تؤدي الأمطار الموسيمية على القمم البازلتية لهضبة الحبشة إلى الدفع بمياه إضافية تحمل ذَوْبَ الصخور فيفيض النيل – أثناء ذلك الفصل من كل عام – بالغرين المخصب لتربة الوادي المصري.
وفيضان النيل في مصر ظاهرة طبيعية تاريخية دورية لها صلة وثيقة باقتصاد المجتمع ومعتقدات المعبد. بيد أن المعتقدات المصرية القديمة لم تنظر إلى نهر النيل كإله بل كظاهرة ذات شأن خلقها "رَعْ"، ولئن كانت المعابد قد أطلقت على فرعون تسمية "إبن النيل" فذلك تعبير مجازي واضح. وأحياناً كانوا ينسبون إليه – من باب التبجيل والفذلكة – قدرة خرافية تجعله يأمر النهر بالارتفاع فيفيض بتأثيره، وعندما لا يُلَبِّي النهر أمره ولا يفيض بفعل عوامل طبيعية في سنوات القحط والتحاريق المديدة النادرة فإن الكهان يتوجهون بالدعاء والتراتيل الكهنوتية إلى "رَعْ" خالق النهر ولا يناشدون "فرعون" بأية أدعية تتعلق بذلك، وهذا دال على عزوف المعتقدات المصرية القديمة عن تكريس فرعون كإله حتى لو وسمته المعابد في فترات أخرى بأوصافٍ وألقابٍ تقربه من التاسوع الكوني، أي تسمو به صوب الآلهة الذين يرأسهم سيد الكون "أوزيريس". والمعروف أن التاسوع قد سُددت إليه ضربة قاصمة بأفكار "أخناتون" الدينية المبشرة بإله واحد لا شريك له، وقد حطم ذلك الكاهن والحاكم النابغة "أخناتون" – وهو في نفس الوقت آمونحوتيب الرابع – معظم أصنام "طِيْبا" توطيداً لمقولته الفكرية برب واحد للدنيا.
وفي نشيدٍ قديمٍ لا يزال مسطوراً بالنقش في الحجر باللغة المصرية القديمة قبل أربعة آلاف سنة على جدران مدينة "طِيْبا" التي وصف "هوميروس" أسوارها في "الإلياذة" بأنها ذات المائة باب"، ودوَّن بصددها الأديب الألماني "أميل لودفيغ" – نقلاً عن علماء الآثار والمصريات – أنها كانت عاصمة العالم القديم بأسره، ويرد في النشيد: ((السلام عليك أيها النيل الذي يخرج من الأرض ليغذي مصر، والذي يخرج من الظلمات إلى النور ليشاد بوروده. أنت تسقي الحقول، وقد خلقك "رَعْ" لتطعم القطاع. أنت تروي حتى الصحراء البعيدة عن كل ماء ما دام الطَّل هو الذي ينزل من السماء. وإذا ما كان النيل مكسالاً هزل الناس وزالت القرابين وماتت الملايين. وإذا ما ارتفع النيل كانت الأرض في سرور وكانت المِعَدُ في حبُور، وضحكت الظهور وابتسمت الثغور. والنيل هو الذي ينبت الشجر وينتج السفن لتعذر صنعها من الحجارة. ومن ذا الذي يجرؤ أن يشبهك بالبحر الذي لا يخرج حباً. أيها النيل الكريم الذي يروي المروج ويهب القوة إلى الناس.)).
وعلى عمودٍ شهير أقدم من الأهرامات مازال قائماً في عصرنا الجاري واسمه "عمود سنوات المجاعة السبع تطالع المشاهد عبارات منقوشة باللغة المصرية القديمة نصها كما يلي: ((لم يرتفع النيل منذ سبع سنين، ويعوزنا الحَب، وقد جفت الحقول، وعاد الرجل لا يدفن جاره، وصار الجميع يفر على ألاَّ يرجع، ويبكي الولد، ويذوي الشاب، ويذبل الشائب، وتزول قوة سوقهم، ويجلسون القرفصاء على الأرض متكتفين.)).
ويذكر العلماء بشأن البنية الفلاحية ما معناه أن نظامين من الطبيعة والتقنية قد سادا مصر من بداية العصور الزراعية البعيدة حتى يومنا هذا، أولهما نظام رَيّ الحياض وقت الفيضان فقط، وقد استمر سبعة آلاف سنة وفق الدكتور "إبراهيم زرقانة" أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة القاهرة في خمسينات القرن العشرين ضمن كتابه الأكاديمي. وثانيهما نظام الرَّي الدائم طوال السنة الذي دشنته السُّدود وشبكة المصارف المائية واسعة النطاق في القرن التاسع عشر وما تلاه.
وينقل الكاتب الألماني "أميل لودفيع" أن "أولى العلائم والأرقام الخاصة بالفيضان – أي لوحات المنسوب المائي وسجلاته – ترجع إلى ستة آلاف سنة.)).
وبديهي أن هذا لا يُعَيِّنُ زمن نشوء الزراعة المنظمة في مصر فهي أقدم مما ذكر لكنه يوفر بواقع الأدلة الأثرية المتنوعة تأكيدات حول عراقة تاريخ الفلاحة المنظمة هناك.
وقد نعت "لودفيع" مصر بأنها "أمة من الفلاحين". كما كتب المؤرخ "هيرودوت" قبل ذلك جملته الذائعة: ((مصر هبة النيل.)). إلا أن مكونات النسيج الاجتماعي في مصر القديمة أعقد مما نتصور، فخلافاً للنمطين الصيني والهندي حول الأنهار والأنماط اليونانية والرومانية أو الأوروبية القديمة عامة بعبيدها ومن ثَمَّ أقنانها الذين أحرزوا مكاسب تحررٍ نسبي من العبودية وتدرجات أخرى هامة على درب الحرية حتى انبثاق الثورة الصناعية الكبرى وانهيار الإقطاع فإن مصر الفرعونية لم تفرز تاريخياً أي نظام عبودي على غرار ما كان شائعاً ومعتاداً في أرجاء العالم القديم لدرجة غير معقولة أحياناً إلى حدٍ نصت فيه التشريعات الرومانية القديمة علانية على ملكية السيد الكاملة لعبيده في المزارع والورش الأولية بما في ذلك حق حياة الأرقاء المتروك لتصرف السيد وإن ظل ذلك التشريع – في معظم الأحوال – نظرياً للإخافة وملاقاة توقعات التمرد والهرب.
وعدا تلك الميزة التي انفردت بها مصر القديمة بقي النمط العبودي سارياً بمعزلٍ عن الفلاحين والصناع وبقية الطبقات الاجتماعية المصرية في شكل استخدامٍ متعدد الأغراض اقتصر على أسرى الحروب وأسرى الإغارات اللصوصية من النهابين والمتسللين في مجموعاتٍ كبيرة لسرقة أكوام الحصاد فأولئك الأشقياء استخدموا بالسخرة في بعض فروع الإنتاج والخدمات تحت أمرة رؤساء مصريين دون مشابهة لتشريعات المؤسسة الرومانية.
وحول هذه المسألة الشائكة يورد الكاتب العالمي "هـ. ج. ويلز" في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية" أن المعابد وفرعون ومن هم دون فرعون من النبلاء – يقصد حكام الكُور – هم الملاك الذين يتلقون الإيجار، ثُمَّ يقرر "هربرت جورج ويلز" النص التالي: ((إن الزَراع في مصر لم يكن عبداً بل كان فلاحاً.)).