Atwasat

الملك العاري وبو شفشوفة

سالم العوكلي الأحد 04 مارس 2018, 12:06 مساء
سالم العوكلي

منذ البداية، ومن لحظة سقوط الأقنعة وانطلاق المارد من عزلته المفروضة، لم أحب استخدام السخرية اللفظية أو النعوت المتعلقة بالشكل أو الهوية، وما تبعته من لغة إعلامية تتلاعب بالملامح والأسماء والكلمات.

غير أن المفارق في الطغاة كونهم مرارا يتحولون من أشباه الآلهة إلى سلسلة من الحكايات الساخرة فيما بعد، ومن لوحات البورتريه المتقنة إلى رسوم الكاريكاتير المتندرة، وهي إحدى مفارقات التاريخ حين يقرر في ذروة تجهمه أن يضحك. فمع بداية تحرر الليبيين من لجام الصمت ومن سنوات القمع، انفجر المكبوت القديم، وأصبحت السخرية التي شاكسوا بها السلطة سريا لسنوات معلنةً، إحدى وسائل التشفي التي تثأر من الدكتاتور الذي طالما استخدم الوسيلة نفسها في حروبه اللفظية مع أعدائه في الخارج والداخل.

«بوشفشوفة» كانت إحدى هذه النعوت التي ظهرت على السطح منذ أول يوم في انتفاضة فبراير، في الكتابات على الجدران، وفي الرسوم الساخرة البدائية، وفي الهتافات. ولأني أعود إليها الآن بتصور مختلف، أتعامل معها كظاهرة سيميائية لافتة بالنسبة لمن يقف عند فكاهات التاريخ أو سخرية القدر، كما يقال، من شخص أطلق على نفسه كل صفات الألوهية ليصحو ذات يوم على رعيته الورعة وهي تتهكم على علامة كانت سر نرجسيته وهو يمشي في المحافل مثل الطاووس.

ولأن انتشارها في ذاك الوقت يذكرني بحكاية «الإمبراطور العاري» التي تنسب للكاتب الدانماركي، هانس كريستيان أندرسن، والمقتبسة عن حكاية شعبية مغربية نقلت من العربية إلى اللاتينية في القرن الحادي عشر.

تتحدث حكاية أندرسن عن إمبراطور مولع بالثياب الفضفاضة والغريبة لدرجة أنه كان ينفق معظم ماله على شرائها، وذات يوم حل على مملكته اثنان من النصابين الذي يلاحقون عادات الملوك الغريبة ويستثمرون فيها، وأشاعا أنهما حائكان خبيران في صناعة النسيج الاستثنائي، وأنهما ليس قادرين فقط على صناعة النسيج الملون البراق، لكن بإمكانهما صناعة نسيج خاص له ميزة تجعله غير مرئي إذا ما ارتداه وزير أحمق أو من يشغل منصبا لا يستحقه.

واستهوت هذه الميزة المثيرة الإمبراطور الذي كانت به رغبة لمعرفة غير الكفء أو الفاسد من مستشاريه ووزرائه، ودفع لهما مبلغا كبيرا ليباشرا عملهما، وقبل احتفال تنصيبه السنوي أرسل رئيس وزرائه المؤتمن والخبير في أنواع القماش لكي يرى الطريقة التي يجري بها العمل، وحين دخل المبعوث إلى مشغل الحائكين دُهش حين شاهد النول فارغا، فقال له أحدهما: ما رأيك في النسيج يا فخامة رئيس الوزراء؟. فثبت نظارتيه جيدا وقال رغم أنه لم ير شيئا: رائع. وفجأة دخل الإمبراطور، وسأل وزيره عن رأيه في النسيج الذي لم يره.

اقترب الوزير ولامس مكان النول المفترض وقال له: إنه نسيج بديع ورائع. فقال الإمبراطور: إني لا أرى شيئا ولكنه قماش بديع ويروق لي كثيرا، وطلب منه أن يقص بعضه لكي يحاك على مقاسه ويرتديه في الحفل الكبير المقبل.

وقبيل الاحتفال حضر الإمبراطور فخلع الحائكان ملابسه و تظاهرا بأنهما يلبسانه الكسوة الجديدة بدقة بالغة، وخرج الملك وسار في الموكب وسط الحشود، أجمع المتفرجون على أن ثياب الملك الجديدة رائعة، ولم يجرؤ أحد على القول أن الإمبراطور دون ثياب، لكن طفلا صغيرا وسط الحشد صرخ: الإمبراطور عريان . ودارت ضوضاء بين الحشد قبل أن يكرروا ما قاله الطفل «الإمبراطور عريان».

تقول الحكاية المشابهة التي بطلها ملك ملوك، وحدثت في ملتقى القرن العشرين بالقرن الواحد والعشرين وملتقى الألفية الثانية بالثالثة، أنه في زمن أغبر وليس غابرا، عاش حاكم مطلق مولع بالثياب الفضفاضة ذات النقوش والصور، ومولع بتصفيف شعره حسب كل هندام يخرج به، أقنعه الزبانية أنه أوسم رجل على وجه الأرض وأكثرهم أناقة، وأن تسريحة شعره البديع تخلب ألباب العذارى وغير العذارى، وأحضروا له أفضل مصفف للشعر تعرفه الصالونات وأصبح قرينه المقرب منه، وانتشرت صوره على صفحات الجرائد وعلى الشاشات وفي الشوارع والمكاتب، وفي كل مكان، متباهيا بشعره المرسل وبتسريحته الجذابة التي أصبحت موضة يقلدها مخلصوه ومريدوه ومنافقوه.

وفي يوم ليس ككل الأيام استيقظ الحاكم على جلبة وضوضاء، وأطل من شرفة بيته المحاط بالأسوار والأسلاك الشائكة والكاميرات والحراس المدججين، ليرى ميادين مملكته مكتظة بالغاضبين، ومن قلب هذا الزحام صرخ طفل قائلا: بوشفشوفة !! وتطلع الجميع ، المئات ثم الآلاف ثم الملايين، وصرخوا بصوت واحد (بوشفشوفة) واكتظت الجدران بصوره الكاريكاتيرية يظهر فيها شعره وكأن قططا لعبت به.

مثلما حدث للإمبراطور العاري حدث للحاكم القائد الذي اكتشف أنه مخدوع لعشرات السنين حين كان مقربوه وحين كانت المرايا تكذب عليه.

تقول الحكاية أنه عاد لحصنه الذي تمتد تحته الأنفاق فهشم كل المرايا الكاذبة، وبحث عن مصفف شعره، لكنه لم يجده، وهرب مثلما هرب ناسجو ثياب الإمبراطور النصابون. والبعض يقول أنه قبض على حلاقه أثناء هروبه وأحرق له شعره قبل أن يفصل رأسه عن جسده.

ومنذ ذاك الحين لم يعد يرى الحاكم إلا وهو يلبس عمامة ويخطب بها في الشعب الذي لا يستحق الحياة إن لم يكن يحبه هكذا، يحبه حتى بشفشوفته.

الطغاة في صميمهم مضحكون،لأن من يحاول أن يعلو فوق وضعه البشري يتحول تلقائيا إلى رسم كاريكاتير مهما أحيط بتبجيل منافق، غير أن الورع الجماهيري لا يملك إلا أن يرى الإمبراطور وهو عارٍ في ثياب جميلة. أحب الليبيون تلك الطفلة في ميدان المحكمة ببنغازي التي كانت تترجز بسخرية وتكرر كل مرة لازمة (بوشفشوفة) لأنها تشبه ذاك الطفل وسط الحشد الأعمى منهجيا في حكاية أندرسن، أو أصل الحكاية المغربي، الذي قال بعفويته غير الملوثة (الإمبراطور عريان).

لا تختلف الحكاية المغربية التي ألهمت الحكاء الدنماركي سوى في كون عدد الحائكين ثلاثة، وفي خاصية القماش الذي لن يراه إلا من كان ابن أبيه وليس لقيطا أو ابن زنى، واستهوت الخاصية الملك كي يعرف من من رجال مملكته شرعي النسب.

الملك الذي لم ير القماش خاف أن يعترف بذلك فيفقد مملكته باعتباره ليس الوريث الشرعي، فاستسلم لأيدي النصابين وهي تلبسه عباءة الوهم وخرج على جواده وسط الحشد الهاتف، لكن زنجيا فقيرا ليس لديه ما يخسره أخبره أنه عار فوق جواده. فأمر الملك بجلد الزنجي لأنه لم ير القماش فهو إذن ليس ابن أبيه، لكن الناس بدأت تتناقل حقيقة ركوب الملك عارياً للجواد، وتحررت البطانة من الخدر لتعلن أن الحائكين نصابون هربوا بالمال من القصر.

البطانة هي التي تصنع الوهم وتثبته في عيون المستبد وفي عيون الناس، وهي التي ستدعي أن المستبد مازال حيا حتى وإن تحولت عظامه إلى مكاحل، وهي التي ستحن إلى الزمن الذي كان يسير فيه المستبد بين الجياع عاريا دون أن يستطيع أحد منهم الكلام، وهي التي تقنع الحاكم بأنه شبه إله وترغم رعيته على عبادته.

على الطغاة الجدد سارقي حلم الشعوب أن يدركوا أنه مهما طال زمن تغطية عوراتهم بالأكاذيب والأوهام أن ثمة طفلا في قلب الحشود المخدرة يمثل جيلا لم يروض بعد، أو جائع بجوار الموكب، سيطلق شرارة التمرد بالهتاف الشهير (الإمبراطور عريان) حين لا يجد وقتها حتى ورقة توت يلوذ بها. ولا يجد في الجوار أحدا من بطانته.