Atwasat

الحوات والحرية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 29 يناير 2018, 12:07 مساء
محمد عقيلة العمامي

قيل إن الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون، يتابع بدقة شديدة كل ما يذاع، أو يكتب عنه في الإعلام. ويحكى أن وكالة «اليوناتيد برس الدولية» وزعت، ذات ليلة، خبرًا مفاده افتتاح البيت الذي شهد طفولته كمتحف، سمع الخبر وانتبه إلى خطأ، مفاده أن ثمة رسمَ دخول لزيارة هذا البيت. اتصل في الحال بالوكالة وأخبرها أنه كتب لا توجد رسوم للزيارة، فاعتذرت الوكالة وصُحِّح الخبر، ثم وُزِّع في الحال.

في «بوابة الوسط»، وبسبب حجم العمل وكثرة ما يصلها من أخبار من وكالات عالمية تقع أحيانًا، بعض الأخطاء، ولكن غالبًا ما تصحَّح في الحال، بسبب آذان صاغية، وعيون ساهرة

في «بوابة الوسط»، وبسبب حجم العمل وكثرة ما يصلها من أخبار من وكالات عالمية ومراسلين بعديد الدول والمدن، تقع أحيانًا، بعض الأخطاء، ولكن غالبًا ما تصحَّح في الحال، بسبب آذان صاغية، وعيون ساهرة تتابع ما ينشر أو يذاع.

هذه حقيقة أشعر معها بالامتنان، أن هناك مَن يتابع ويهمه أن يصل الخبر أو الموضوع بحرفية ومهنية فائقة. والحقيقة هي أنني أجمع كلماتي، مثلما قال صادق النيهوم لرئيس تحرير جريدة الحقيقة «بإعياء مطلق» ولكنني بين حين وآخر أسهو، فأخطئ ولكنني أثابر بما بقي لي من قدرة ألاّ يتكرر السهو.

أعترف أنني ألوم نفسي، وأعاتبها على سهوها، وظللت طويلاً أفكر، في مسبباته، إلى أن أعدتها إلى المهنة التي وجدت فيها نفسي، وبرعت فيها وتدرجتُ في تطبيق فنونها بابتكارات لم يكن يعرفها صيادو السمك في بنغازي. وهي صيد السمك.

فمن هاوٍ، إلى بحري، مع عدد من رياس رصيف بنغازي، إلى أن منحني الرايس خليفة حسين مغاليه، لقب رايس حقيقي، تركت، بعد نيله، كل شيء لنحو عشرين سنة، بسبب الصفاء، والرزق الذي وجدته في البحر بعيدًا عن ضجيج الثورة المستمرة.

ولكن الزمن المخادع يأخذك، في غفلة، من الصبا إلى الكهولة، فترغمك على ترك منصة رايس بحر وتصبح «رايس بر»؛ من صيد السمك، إلى تسويقه، ثم ينتهى الأمر بطهيه في مطعم «الرياس».

قال لي خليفة الفاخري ذات ليلة، ونحن نتناول «حرايمي بمناني أبيض» في «البنكينه»: «إنك تذكرني بالفنان التشكيلي الذي ترك الرسم وافتتح محلاً لبيع لوحات الآخرين».

صحيح أن الحرية التي يجدها الرايس فوق «كويرطة» مركب الصيد لا تتوفر لغيره، تخيل نفسك باسطًا ذراعيك في وجه الريح، مثلما فعل بطل فيلم «تايتانك» ولكن من دون رفيقة، ونسائم الريح النقية تغمرك.. لا شيء أمامك سوى الأفق، وأنت تسمع لحن انكسار الموج عند مقدمة المركب، متناغمًا مع إيقاعات المحرك على آلة البحر الساجي، فيما تغني النوارس فوقك وأنت تشاهد أسماك الدلفين وهي ترقص يمينك ويسارك.

تستطيع أن تغني، وأنت توجه دفة مركبك أينما تشاء، تستطيع أن تشتم النظام ورؤوسه، والاتحاد الاشتراكي والبصاصين، وأبناء الزنا الذين خُلقوا لينبهوك إلى أن العالم أجمل بكثير من دون رؤيتهم. تستطيع أن تصرخ أو تبكي أو تغني وأنت عار تمام إلاّ من نفسك. كنت أراها حرية كاملة.

روعة الحرية
رميت ذات مرة في البحر، مع بقايا وجبة «شرمولة» مح الخبز. فنهرني الرايس: «لا ترمِ أي شيء يؤكل وأنت في عرض البحر، فقد تحتاج إليه. ولا تبحر من دون ماء وخبز وتمر معجون ولا تأكل منه أكثر مما يسد رمقك، فأنت لا تعرف متى تعود إلى خبز أمك... « وألحقها بشتيمة لحقت أمي.

وعندما حدثته عن روعة الحرية وجمالها ونحن في عرض البحر، كان منصتا، وظننت أنه مأخوذ بما أقوله، وعندما انتهيت، دفع بقلنسوته الزرقاء إلى أعلى جبهته وابتسمت عيناه وقال: «خّرف..» وقال لي ساخرا: «الحمد لله أن حسين مغاليه لم يأخذني إلى المدرسة مثلما فعل سي عقيله..» واستطرد: «أي حرية وأنت تلهث طوال الليل والنهار وراء مخلوقات غبية مزفره؟ أي حرية وأنت مقيد بألواح بالية وبضعة مسامير صدئة، ومحرك غبي قد «يحّرن» كبغل عنيد، فتتبخر عودتك لأطفالك وتبكي من الرعب والخوف، وتبتهل ألاّ يفتح الله أبواب رياح القبلي مُيتمة الأطفال، فيبتلعك البحر، أنت وهذه الحرية المجنونة، يا راجل جهز صنارك قربنا نوصل «بابور بالا»» وأخذ ينقر مقعده ويغني: «على شط الحرية رستْ مركب ثورتنا... «.

ومع ذلك كانت تلك الأيام من أجمل أيام حياتي، انطلاقي فيها امتعني كثيرا، وكان من أهم أسباب صحتي النفسية، التي قربتني كثيرا من الله وعبيده الطيبين. كنت بعيدا جدا عن هموم وطن كانت الحرية أهم مطالبة ولقد نالها. ولم يخطر ببالي مغبتها لو لم ينبهني الرايس خليفة حسين امغالية.. ورياس آخرون عرفتهم من بعد فبراير 2011.