Atwasat

معراج النهار والليل

نورالدين خليفة النمر الأحد 28 يناير 2018, 12:26 مساء
نورالدين خليفة النمر

سأكتب في تكريم عبد الله العروي مُشرعاً باب المصائر وواحدها مصير الكتب التي في غمرة عمرنا نقتنيها بتعب ونقرأها بشغف فتُمتعنا فنحبها وترافقنا ترحالنا ومنفانا ثم نعود بها لظرف ما إلى مانظنه الوطن مأمننا فنلقى وإياها مصير الإتلاف المشؤوم.

من الكتب التي نجت وقد عدتُ إلى المنفى لأجدها على رفّي مثقلةً بغزارة تهميش قرآتي لها بعضها لسمير أمين "التطور اللآمتكافئ" و"الطبقة والأمة" و"نظرية الثقافة" ولمحمد آركون "نزعة الأنسنة" و"الفكر الأسلامي قراءة علمية" و"الإسلام الأخلاق والسياسة" وللعروي "مفهوم العقل" و"مفهوم التاريخ" و"الأيديولوجية العربية المعاصرة" وأبتدئ به لأحكي قصتي معه بترجمته البيروتية الأولى1970عن الفرنسية التي لا أعتقد أن عسف الثورة الثقافية الديماغوجية التي عاصرتها طالباً ثانوياً في ليبيا 1973 قد حاق بها، فكان يقيني أن تصير في حيازة رقابة المطبوعات وقد صيّرني عبث الأقدار موظفا بها في بداية عام 1979 ومديرا في آخره فصارت من صلاحياتي اقتحام جاراج الكُتب المصادرة التابعة للجهاز والتفتيش في محتوياتها المخصصة لطلب الدكتاتور رأس النظام ليطلّع عليها فيؤممها ومن حظي أن كتابي العروي "أزمة المثقفين العرب" المُساجل ضد النقود الموجهة ضد "التاريخانية" و"الأيديولوجية العربية" الكوجيتو الديكارتي المعرّب "أنا أفكر إذن أنا موجود" نجيا من حيازة الدكتاتور. فقرأتهما بلهفة غيّبت عني الترجمة التي خصّص الكاتب صفحات ممتعضة في تجلية معايبها في الطبعة الثانية التي عكف خصيصاً على ترجمتها. الكتاب صدر بالفرنسية عام1967 ليكون منافحة فكرية عن وجود العربي مواطناً ومثقفا وقد صعقته وهدّدت هويته هزيمة الأنظمة العربية الجمهورية العسكرتيارية والسلطانية الماحقة إزاء إسرائيل.

السياسة شاغلاً فكرياً نراه مشروعاً مبتدأَ بالوطنية المغربية في أطروحة العروي المنجزة بجامعة السوربون سنة 1976

ما أريد أن أطرحة في مقالي هذا أن مفارقة احتفالية التكريم 18 يناير 2018 فيما رتبه معهد العالم العربي بباريس في المغرب، قد فاجئتني قارئاً مُدقّقاً في كتب عبد الله العروي كما فاجأت الباحثين المختصين الذين ألقوا أبحاثهم في حضوره، بأن صرّح أنه خلافا لما يعتقده الكثيرون، أن كتابه "مفهوم التاريخ" هو الأساسي الذي ينبغي التركيز عليه، وليس كتابه الأشهر "الآيديولوجيا العربية المعاصرة“. وكأني بالعروي يطرح جانبا الأبحاث الستاتيكية التي قُرئت في الحفل كحواشٍ مستصحبة بمتنه الفكري فيقرّض في إقراره كما يبدو من عنوانه بحث الألماني نيلس ريكن من جامعة برلين الذي أصاب الشاكلة بأن حقّب المسار الفكري الحافل طوال الخمسين عاما وعنونه بثلاثيثه “الزمنية، والتاريخانية، والسياسة”.

ليس في يدنا إلا عنوان البحث الذي أورده تقرير صحفي عن مجريات حفل التكريم، ولكن بحكم درايتنا نستطيع أن نقول أن التاريخانية كمحاولة أوربية في القرن 19 لبناء علم للتاريخ موافق للعلوم الوضعية صيغت نسختها العربية فلسفيا من قبل عبد الله العروي في كتابه المبكر الذي ألمحنا إليه، ومنهجياً، في كتابه مفهوم التاريخ1992 ولامسها قبله بكتابيه العرب والفكر التاريخي 1973 وثقافتنا في منظور التاريخ 1983 وهي كتابات تجاوز الحقبة التي شرعها كتاب الأيديولوجية العربية المعاصرة. إذ هجر العروي أسلوب المؤرخين: ـ رصد الأسباب والسوابق ـ إلى أسلوب التاريخانيين: ـ تعقّب الروابط والعلاقات ـ ، أي أنه فضّل أن يبقى في دائرة مقدمة ابن خلدون الباهرة فلا يتعدّاها إلى كتابه العبر، وكأن "علم العمران" أضحى علم العلوم. وبمكر الطريقة يدخل العروي بجواز سفر تاريخاني بعد أن أمسى لا يعترف بانتمائه إلى زمنية المؤرخ الإخباري الذي تجاوزه في أطروحته.

السياسة شاغلاً فكرياً نراه مشروعاً مبتدأَ بالوطنية المغربية في أطروحته المنجزة بجامعة السوربون سنة 1976 التي تحولت لاحقا إلى كتاب مرجعي بعنوان "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912". ولكن هذا لايساعدنا على أن نقرّر معنى مفردة السياسة في عنوان بحت نيلس ريكن هل المقصود بها علم أو مبحث السياسة أم مهنة السياسي كتجربة عاشها العروي مغربياً في صفوف اليسار، إذ كانت بصمته واضحة في صياغة تقرير "الاختيار الثوري" الذي قدّمه المهدي بن بركة للمؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية (حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) عام 1962. وكان معينه وهو يخوض تجربة حركة عدم الانحياز و رافقه إلى عدد من الدول الغربية. بل ترشح عام1977 للانتخابات التشريعية في الدار البيضا باسم حزب الاتحاد الاشتراكي، واختار بعدها طوعاً لاخضوعا للمآل الخلدوني الفاشل أن يترك السياسة إقراراً منه أن اكتساب تحربة سياسية لايعني احترافها كمهنة متأثراً في ذلك بالتجربة الأميركية. وبما يقاربه إلى حدٍ ما بابن خلدون، ترك العروي للسياسة بالمفهوم الحزبي لم يحُل دون قيامه بأدوار سياسية في التسعينيات من القرن الـ20، بقبوله لتكليف الملك الحسن الثاني له الاتصال باليسار الفرنسي، واستثمار علاقاته القديمة معه لتجاوز أزمة توتر العلاقات المغربية الفرنسية عام 1990 ـ1991. وسعيه في السياق ذاته لإيقاف الحملة الإعلامية والسياسية على المغرب، كما رافق وقتها الأمير محمد الملك الحالي في زيارات أفريقية وآسيوية وأوروبية. فالسياسة في مسار العروي شخصاً وتفكيراً هي "ترميم مستمر لفتق متجدد". إنها هندسة وتدبير، ممارسة وتجريب، وليست نظرية ومفهومات. وفي كتابه "من ديوان السياسة" نأى بالسياسة، وإن ضمنّها، أن تندرج في كتب سلسلته المفاهيمية كمفاهيم الأدلوجة والحرية والدولة. أما الديمقراطية التي لم يخصصها بالتعريف والتحديد المفاهيمي في كتاب فاعتبرها ما نراه ونلمسه، ما نجرّبه ونصححه. وحسب جملة لجاك دريدا أن تكون ديمقراطيا هو أن تقرن أفعالك وأقوالك دوما بالاعتراف بأنك في مجتمع غير ديمقراطي".

للعروي إسهام مبكر أيضًا في الكتابة الروائية والسيرية بدأها برواية: الغربة

لا يخال من عاش في ألمانيا مثلي ردحاً من عمره باحثاً ألمانيا وإن لم يضّمن ذلك في عنوان مساهمته حول العروي أن يغفل عن رؤية ترميز الحكمة بومة منيرفا في تعبير الفيلسوف هيجل "إن بومة منيرفا لاتبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله" فالعروي خلص في كلمة تكريمه إلى أنه توصل في إصداراته الأخيرة إلى ثنائية النتائج، وثنائية المواقف، وثنائية المعتقد، وكتب عن «فكر النهار»، بتعبير شعري مجازي، كونه فكر مجتمع، وأن معاني التاريخانية والعقلانية والسياسية تصب في منحى المنفعة العامة. أما "كلام الليل" مضمار ما أشرنا إليه بطيران منيرفا الفلسفة في رحلة الغروب فيتسنى للمرء "عندما يخلو لنفسه، وينفصل عن المجتمع والبيت والزوجة، ويناجي ذاته، حيث تتجلى الفلسفة بمعناها الدقيق في العلاقة مع الكون والحياة والموت“.

موضعة الفلسفة دين العروي وديدنه في كل ماكتب بقلب صيغة العنوان الذي اقترحه بحث نيلس إلى عنوان آخر اقترحه العروي نفسه بـ "خواطر الصباح" واحد من ثلاثة: "الإبستيمولوجية ـ الفن ـ التاريخانية“. ولْيسِر كل على نهجه بلا لجج. عدا ذلك فهو لغو لا يُسمع. وأٌدرِاك حق الإدراك لا يُجاب به على هموم الأفراد، إذ هو موضوع لا للعرض والتحليل بل للقص والمناجاة*.

* للعروي إسهام مبكر أيضاً في الكتابة الروائية والسيرية بدأها بروايات: الغربة كُتبت في الخمسينيات ونُشرت عام1971 واليتيم، 1978 والفريق 1986 وغيلة 2001 وأوراق السيرة الذاتية 1989