Atwasat

التعايش السلمي بين الماء والتراب

علي الدلالي الخميس 08 يونيو 2017, 05:47 مساء
علي الدلالي

كثيرًا ما نصحني أصدقائي في السنغال أن أزور دلتا جزر السالوم (أرخبيل مصنف محمية عالمية العام 1981، ومدرج على قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو العام 2011 )، وأخبروني قصصًا من الخيال عن تلك المنطقة الساحرة المتداخلة مع المحيط الأطلسي والبر الأفريقي؛ حيث السافانا وأشجار الباوباو التاريخية العملاقة والمستنقعات، وكنت دائمًا أمني النفس بأن أزور تلك الجزر وأحزم أمري في كل رحلة أقوم بها إلى السنغال، ولكنني أجد نفسي أغرق تارة في زحمة العمل وتارة في نقاشات لا نهاية لها مع بعض الأصدقاء بدأت قبل ربع قرن ولم تنته حتى اليوم، ولا أنتبه إلا وأنا أحزم حقيبتي متوجهًا إلى مطار ليوبولد سيدار سنغور

عرفت السنغال وتحديدًا العاصمة دكار وضواحيها قبل 30 عامًا؛ حيث كانت مدينة شبه هادئة يحيط بها البحر من ثلاث جهات ليجعل منها شبه جزيرة على الأطلسي الأفريقي تنتهي بالنقطة الأقرب من اليابسة الأفريقية إلى اليابسة في الضفة الأخرى من الأطلسي؛ حيث القارة الأميركية.

كان طريق الكورنيش هو الطريق الأكثر ازدحامًا في دكار حيث مقرات بعض المؤسسات الرسمية ومعظم السفارات وإقامة الشخصيات السياسية والدبلوماسيين، وقرية الصناعات التقليدية وميادين الرياضة المفتوحة ومسارات الركض، وبخاصة مرفأ الصيد التقليدي وسوق الحوت المسمى «سومبيديون» أحد أبرز معالم دكار.

عرفت السنغال وتحديدًا العاصمة دكار وضواحيها قبل 30 عامًا؛ حيث كانت مدينة شبه هادئة يحيط بها البحر من ثلاث جهات ليجعل منها شبه جزيرة على الأطلسي الأفريقي.

عند خروج الموظفين مساء في ساعة الذروة أي ما بين الخامسة والسابعة مساء، كان من المستحيل أن تقطع الطريق الذي يمر من أمام مرفأ «سومبيديون» على امتداد نصف كيلومتر فقط في أقل من ساعتين؛ حيث كان نصف سكان العاصمة يتوجهون إلى سوق الحوت لشراء ما يلزمهم من السمك الطازج لإعداد وجبة العشاء.

يتناول السنغاليون في وجبتي الغذاء والعشاء الطبق الشعبي «تشيبوديان»، وأساسه الأرز المخلوط بالسمك والخضراوات نظرًا لتوفر السنغال على أغنى شاطئ في العالم بالثروات السمكية إلى جانب جارتها موريتانيا مما يجعل السمك حتى اليوم في متناول كل أطياف الشعب السنغالي علاوة عن كونه طبقًا لذيذًا جدًا.

اليوم أصبحت دكار مدينة يعمها الضجيج والازدحام والتلوث بسبب الهجرة من الريف إلى المدينة؛ حيث تكدس في حزام الفقر الذي يلف العاصمة السنغالية أكثر من مليونين من السنغاليين، جلهم من الشباب دون 25 عامًا، تركوا قراهم وهجروا الزراعة والرعي بسبب موجات الجفاف خلال العشرية الماضية، والتقلبات المناخية التي أدت إلى شح الأمطار التي تعتمد عليها الزراعة في السنغال ومعظم دول الساحل الأفريقي.

انتشرت مدن الصفيح في ضواحي العاصمة وانصرف هؤلاء الشباب للعمل في أعمال هامشية، كتنظيف السيارات وحراسة أبواب العمارات السكنية في الأحياء الراقية وبيوت الأثرياء والعمل فيها، أو كباعة متجولين في الشوارع والميادين يعرضون أصنافًا مختلفة من البضائع التي يتم تهريبها من ميناء دكار أو من ميناء بانجول في غامبيا المجاورة، وهدف غالبيتهم جمع ما يكفي من المال لضمان رحلة عبر الصحراء إلى ليبيا تحديدًا، ومنها إلى الضفة الأخرى من المتوسط تنتهي معظمها بكوارث.

في منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما تتجول في شوارع دكار أو على الكورنيش، كان صوت الموسيقى والغناء والرقص على الإيقاعات الأفريقية يُسمع في كل الأحياء، خاصة بالقرب من ساحة «المسلة»، أما اليوم فقد تضاعف عدد المركبات بأكثر من 20 ضعفًا على الأقل واختنقت العاصمة بأبخرة عوادم السيارات وتضاعف عدد السكان 10 أضعاف (العاصمة وضواحيها)؛ حيث باتت دكار وضواحيها تستقبل ثلث سكان البلاد البالغ تعدادهم حوالي 12 مليون نسمة، (كان تعداد السنغال 2.8 مليون نسمة عند الاستقلال سنة 1960)، وعلا الضجيج فوق كل شيء وشكلت المباني الشاهقة حواجز في نفوس السكان البسطاء، فيما تقلصت مساحة الفضاء على الواجهات البحرية الثلاث لدكار بعد أن زحفت عليها مشاريع الفنادق والفضاءات التجارية.

يتناول السنغاليون في وجبتي الغذاء والعشاء الطبق الشعبي «تشيبوديان» وأساسه الأرز المخلوط بالسمك والخضراوات نظرًا لتوفر السنغال على أغنى شاطئ في العالم.

وأمام هذا النمو الديمغرافي المخيف اضطرت السلطات السنغالية رغم قلة الإمكانيات وشح الموارد إلى تطوير البنى التحتية، خاصة في مجال الطرق المحيطة بالعاصمة، وطال التطوير طريق الكورنيش حيث أصبح طريقًا مزدوجًا، وزود بنفق تحت الأرض على مستوى مرفأ «سومبيديون» للصيد التقليدي وبيع السمك، مما جعل هذا المعلم التاريخي والفريد في العالم يختفي من المشهد العام لمستخدمي طريق الكورنيش ومن الواجهة البحرية لدكار، مما دفع بكثير منظمات المجتمع المدني إلى المطالبة بإغلاق النفق وبناء جسر معلق للمحافظة على المشهد الذي تزينه «الجنادل» العائدة قبل الغروب من الصيد، أو المتجهة إلى البحر مع خيوط الفجر الأولى، ومشاهد بائعات السمك السنغاليات في الساحة المفتوحة للسوق، وغير بعيد عنهن النساء اللائي يشوين السمك الطازج على الفحم للزبائن.

في زيارتي الأخيرة إلى دكار أنجزت أعمالي في بضعة أيام، وقررت الهروب من العاصمة وصخبها الذي بات لا يطاق كسائر العواصم الكبرى في أفريقيا وغيرها، إلى نغابارو (80 كلم جنوب دكار)، وهي قرية للصيد التقليدي على الأطلسي الأفريقي تتوفر على شاطئ جميل من الرمال البيضاء الناعمة، تطل عليه مجموعة من البيوت الجميلة منها بيت أحد أصدقائي حيث أقيم عندما أهرب من دكار، ومنها انتقلت إلى دلتا السالوم (حوالي 200 كلم

جنوب غرب دكار، وهي أرخبيل يضم أكثر من مئتي جزيرة ورصيف رملي وبحيرة ومستنقع)، وكانت أول ردة فعل لدي هي الأسف الشديد عن 30 عامًا التي مرت ولم أزر خلالها هذه الجنة الصغيرة فوق الأرض.

كنت قبل مغادرتي نغابارو رتبت لاستئجار جندول Pirogue (مركب خشبي طويل نسبيًا، ولكنه ضيق في استنساخ للمراكب التي كانت قديمًا تحفر في جذوع الأشجار) للقيام بالرحلة إلى بعض جزر دلتا السالوم.

وفور وصولي اتصلت بالشخص المعني الذي كان في انتظاري في مقهى فندق «البجع»، ومنه انتقلنا إلى الرصيف الخشبي وركبنا «الجندول» في رحلة شبيهة بما نشاهده في برامج الفضائيات المتخصصة في عوالم البحار والبحيرات والبراري والسافانا والحيوانات والطيور والغابات والمزارع المائية.

انتشرت مدن الصفيح في ضواحي العاصمة وانصرف الشباب للعمل في أعمال هامشية كتنظيف السيارات وهدف غالبيتهم جمع ما يكفي من المال لضمان رحلة عبر الصحراء إلى ليبيا تحديدًا.

انزلق «الجندول» فوق سطح الماء وبعد حوالي 20 دقيقة من الإبحار بدأت تظهر طلائع حظائر تربية وإنتاج الرخويات والمحار والقواقع البحرية والجمبري، خاصة ما يسمى في السنغال (الكمرون) وهو نوع من الجمبري كبير الحجم ولذيذ جدًا.

مررنا بعد حوالي نصف ساعة من الإبحار وسط هذه المناظر الخلابة بجزيرة «العصافير»، وهي جزيرة يُمنع الترجل فيها وتضم مئات الأنواع من الطيور المحلية والمهاجرة، أكبرها حجمًا البجع الأفريقي الجميل.

ناولني البحار قائد الجندول والرحلة «موسى نيانغ» وأنا أتابع هذا المنظر الفريد والتزاوج بين الماء والتراب والشجر والطيور والزواحف، كوبًا من الشاي الأخضر (بالرغوة شقيق ذلك الشاي الذي نتناوله في مدن الجنوب الليبي، وعلى امتداد المدن والواحات القائمة وسط بحور الرمال في الصحراء من الكفرة إلى شنقيط، مرورًا بالجفرة وبراك الشاطئ والسارة وغات (ليبيا) وبرداي وفادا وفايا (تشاد) وأغاديس وتاهوا وأرليت (النيجر) وجنات وتمنراسات وورفلة ولغواط وتندوف (الجزائر) ووجدة وبوجدور ومراكش والسمارة (المغرب)، وكيهيدي وأطار والزويرات (موريتانيا)، كان بدأ في إعداده ساعة انطلقنا من مرفأ فندق البجع وقال لي: «هل تريد أن نواصل الرحلة بين الجزر والمستنقعات أم عندك مخططات أخرى».

أفرغت رشفة من ذلك الشاي العجيب في جوفي وقلت لمحدثي: «أرغب في زيارة جزيرة مار لودج قبل كل شيء».

ابتسم قائد الجندول وأدار الدفة باتجاه تلك الجزيرة التي تبعد زهاء 45 دقيقة عن جزيرة العصافير.

كنت استمعت إلى كثير القصص عن جزيرة مار لودج من أصدقاء سنغاليين قاموا بزيارتها، غير أن مشاهدتي لها في هذه الرحلة كانت أبلغ وأروع بكثير من جميع تلك القصص التي رُويت لي.

وبالفعل كانت مار لودج جزيرة استثنائية على كافة المستويات، خاصة على المستويين الطبيعي والإنساني؛ حيث تتوسط هذه الجزيرة منطقة دلتا السالوم، ويتعايش في تناغم ووئام وتعاون فوق أرضها الصغيرة حوالي 2000 نسمة من المسلمين والمسيحيين والوثنيين.

قفزت من الجندول إلى الشاطئ الرملي للجزيرة حوالي الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، ولحق بي دليل الرحلة بعد أن ربط مركبه إلى جذع شجرة على اليابسة ليقترح عليّ أن نتناول وجبة الغداء قبل بدء جولتنا، فاستحسنت الفكرة خاصة أني شعرت بشيء من الجوع وكانت الشمس عمودية والجو يميل إلى الحرارة.

مررنا بعد حوالي نصف ساعة من الإبحار وسط هذه المناظر الخلابة بجزيرة «العصافير» وهي جزيرة يُمنع الترجل فيها وتضم مئات الأنواع من الطيور المحلية والمهاجرة، أكبرها حجمًا البجع الأفريقي الجميل.

جلسنا إلى طاولة من الخشب في ظل شجرة أكاسيا في مطعم مفتوح يتوفر على بعض مواقد الفحم لشوي السمك؛ حيث يقوم الزبون بإلقاء نظرة على ما أتى به الصياد في نفس اليوم ويختار سمكته لتقوم سيدة سنغالية بتنظيفها ورشها ببعض الملح والفلفل والكمون ووضعها على الفحم، قبل أن تقدمها مع قليل من الخبز والسلاطة.

وتنتج السنغال الخشب في جنوب البلاد في منطقة كازامانس المتاخمة لدولة غامبيا، إلا أن البلاد شهدت خلال السنوات العشر الماضية عملية تدمير واسعة للغابات في هذه المنطقة، بسبب عمليات تهريب الخشب إلى الصين عبر ميناء بانجول؛ مما دفع بالمنظمات المدافعة عن البيئة إلى تنظيم سلسلة من المظاهرات في دكار وبالقرب من سفارة الصين للمطالبة بوقف هذه «الجريمة»، والتي ستقضي وفق الخبراء على الغطاء الغابي في منطقة كازامانس خلال أقل من خمس سنوات.

كانت سمكة «التيوف» بلغة الولوف، وهي من فصيلة سمك «الهامور» أو «المناني» لذيذة جدًا أتبعتها بكوب من الشاي الأخضر وحبة «مانجو» قبل ان أستقل عربة يجرها حصان (ما نسميه كاليس) إلى وسط الجزيرة على بعد حوالي كيلومترين، حيث يمنع دخول السيارات أو الدراجات البخارية إلى الجزيرة.

بدأت تلوح من بعيد مئذنة المسجد وغير بعيد عنها في الجهة المقابلة من الشارع ناقوس الكنيسة.

توقفنا قبل الوصول إلى الساحة العامة في الجزيرة عند «الشجرة المقدسة» لدى الوثنيين؛ حيث كانت بعض النساء يقمن بطحن الدخن Le mil، الذي يصنع منه «الكسكسي» الأفريقي والذرة على إيقاعات وأهازيج ذكرتني بتلك الأهازيج التي كانت تؤديها نساؤنا يوم تجهيز «الكسكسي» للأعراس.

يتعايش المسلمون والمسيحيون وحوالي 100 من الوثنيين فوق هذه الجزيرة التائهة في دلتا السالوم بين البر الأفريقي والمحيط الأطلسي وسط السافانا والمستنقعات بعيدًا عن التلوث البيئي والفكري، في ود ووئام وسلام يحرثون الأرض معًا ويزرعون الدخن والذرة وبعض الزراعات الورقية منها البامية والبصل، ويصطادون السمك معًا يهنئون بعضهم بعضًا في مناسباتهم، يرقصون معًا ويغنون الأهازيج على أنغام نفس الموسيقى.

تركت الجزيرة عند المساء بعد أن زرت المسجد والكنيسة وتكلمت مع كثير السنغاليين البسطاء القانعين بعيشهم فوق هذه الأرض، وجميعهم يبتسمون ووجوههم مستبشرة رغم الفقر وقسوة الحياة.

تركت الجزيرة عند المساء بعد أن زرت المسجد والكنيسة وتكلمت مع كثير السنغاليين البسطاء القانعين بعيشهم فوق هذه الأرض، وجميعهم يبتسمون ووجوههم مستبشرة رغم الفقر وقسوة الحياة. ركبت الجندول وأنا أتمعن في صورة هذا التعايش السلمي في مساحة ضيقة بين التراب والماء، ولكن سرعان ما تلاشت تلك الصورة الجميلة وبدأت تطاردني صورة المسلمين في بلادنا الذين يتكلمون نفس اللغة، ويتوفرون على كل الموارد، يتقاتلون ويدسون السم في الدسم لبعضهم بعضًا.

قبل أن يودعني قائد الرحلة قال لي «متى ستعود لزيارة بقية الجزر»، فقلت له «ليتني أستطيع ألا أغادر»، وكنت أراقب في صمت على الشاطئ بمحاذاة فندق البجع من حيث انطلقنا بعض البيوت الجميلة، قيل لي إن بعض السنغاليين الميسورين والسنغاليين من أصول لبنانية وكثيرًا من الفرنسيين يمتلكون هذه البيوت ويقضون فيها معظم عطلهم وتقاعدهم.