Atwasat

بنغازي... يا بنغازي كل عام وأنت بخير

أحمد الفيتوري الثلاثاء 05 يوليو 2016, 11:18 صباحا
أحمد الفيتوري

«كُنت مثالياً. فمنذ عودتي من مصر سنة 1957، وأنا أنظر إلى ليبيا نظرة تقديس. كنت أرى البشر فيها كآلهة الأوليمب، لا يسقطون، وإن سقطوا فسقطتهم تهز الأعماق، ويأتي بعدها التطهير المطلق!، كنت أراهم مُجردين من خطايا البشر. صدقني إذا قلت لك إنني كنت أنظر فأرى كناساً ـمثلاًـ يكنس الشوارع فأود لو أجري مُقبلاً يديه. صدقني أنني وصلت بنغازي ورأيت بيوتها مهدمة من أثر الحرب، ورأيت النفوس مطحونة ولكنها معاندة وصلبة، فأحسست وكأنني هبطت إلى مستقر أبطال طروادة».

عبدالله القويري
(عبدالله القويري مفكر يُبدع في الأدب والفن ـ أحمد محمد عطية ـ دار المستقبل العربي ـ القاهرة ـ 1992م)

1-
بعد الإفطار في حمأةِ ليالي رمضان أتمشى، في مدينتي بنغازي، من حي البركة، حيث أسكن، مُخترقاً شارع جمال عبدالناصر؛ الاستقلال سابقاً، حتى ميدان الشجرة؛ شجرة الأرز- التي ماتت- ما حمل الميدان اسمها فبقي الاسم رغم موت المدلول، في ركنه ثمة نخيلة عجفاء تحتاج لمسبار لتتبين وجودها. في هذا الميدان محل أحذية يقف أمامه صاحبه مثل شجرة، منذ تجرأت في مقتبل العمر وخالفت الوالد وزحفت من حي الصابري نحو قلب المدينة النابض المتلأليء.

بنغازي اليوم فتعيش عيدها تحت وابل من نيران، من صواريخ من سيارات مُتفجرة من جرافات صديقة مُحملة بالموت

أخترقُ الشارع الرئيس من ميدان البركة، ما تغير حتى شان، البركة حي نصف شعبي؛ حي الطبقة الوسطى منذُ سالف الأيام، ومساكن هذا الحى في الغالب معمارها قديم، منازل ليبية فيها ما فيها من طُرز عثمانية ولا أقول تركية: المدخل قوس حجري بزخرف أحياناً والباب بابان في باب، قوسان؛ يدعى في الجملة باب بوخوخة، على الباب الصغير الذي هو لدخول البشر مدق بوجهي الإله الروماني جانوس وكذا حدوة حصان لدرء العين والحسد، لون البابين أخضر في العادة، تجتاز الباب فتلتقيك السقيفة المستطيلة التي تحولك إن كنت ضيفاً للمربوعة وشكلها في اسمها ومساحتها تدل على صاحب البيت؛ الشيخ، الوجيه، الثري: مضيفتهم واسعة وفيها تكايا والمساحة الضيقة لغير هؤلاء، للسقيفة مدخل مقوس عادة ما يفصل البيت بشرشف يحجز النظر لصحن البيت الذي لا سقف له وقد يكون فيه بئر ونخلة، تطل على هذا الصحن غرف نوم مستطيلة ومساحتها صغيرة وأبوابها حيز لمفرد أما النوافذ فكوة للتنفس، في جانب من الصحن كنيف ضيق ومطبخ أضيق مما يجعل النسوة في الملمات يطبخن في وسط البيت، الذي يبنى في مجمله من الحجارة والجير، الحيطان في عرض نصف متر والأسقف من جذوع النخيل وتبن البحر والطين، يسمى نوع البناء هذا بضرب الباب.

كثيراً ما تكون مساحة البيت شاسعة ولكنه بيت يفتح على داخله؛ الشمس ضيف ثقيل والهواء أثقل لأنه يستجلب معه قرينه العجاج ابن الصحراء المدلل. هناك منازل معمارها إيطالي مميز وشهير، ثمة بيت قرب سينما الزهراء بالبركة من هذا الطراز الإيطالي، اعتنى به صاحبه وصينه وأعاد الحياة له فجعله بهذا يشد الروح لمن مثلي يغتبط بكل جميل حي قدم.

[ في البركة منزل شريك والدى، أعيش فيه كما يعيش أبناؤه، أختلف معه في سيارته الكبيرة الواسعة إلى مكتبه، أحضر مباريات كرة القدم وأعجب بـ«تعولة»، وألعب الكرة في شوارع المدينة الخالية، غير هياب ولا وجل، فقد كان محمود إلى جانبي، وكان شوقي بجسمه العريض وصوته الجهوري وعنته، يخيف حتى الجنود البريطانيين الذين يحمون كل شيء بما في ذلك اليهود وتجارة الخردة، يجمعونها من الصحارى يكدسونها في الساحات، يشحنونها على عربات كبيرة كالطود، يجنون منها آلاف الجنيهات، يركبون السيارات الفاخرة، ويقيمون الولائم للسادة السنوسيين وكبار الضباط، كان عليّ ومحمود أن نبرر بقاءنا في بنغازي، أن يكون لوجودنا عند الرجل الكريم مردود ما غير لعب الكرة في الأزقة والشوارع، وإيذاء الجيران ومخاصمة الأولاد، ومتابعة مغامرات شوقي في المدينة كأنه يملكها. راجع محمود حسابات تصدير الكاكاوية، فاكتشف خطأ أعادهُ إلى صواب، ومن يومها صارت له مهمة ألا ينام حتى يراجع الحسابات، وكانت الحسابات بسيطة لا تعدو الجمع والطرح.

كان لابد أن يُطعم من يريد الدخول إلى مصر أو من شاء أن يتوقى الوباء ولو كان بعيداً عنها، أوقفتنا السيارة أمام مستوصف البركة وأدخلوا في جلود ذراعينا إبرة حادة ظلت تنتفخ حتى خلت أنها سوف تنمو أكبر من رأسي، ويومها خفت أن أموت! فلا أنا بالأزهر ولا أنا بـ«صالحه» ولا أنا بالمحلة ... ولا شيء، سوى حفرة بسيطة يهيل عليها أناس أغراب التراب، في زاوية منزوية في جبانة مجهولة، توسطها وليّ لا أعرف له اسماً وينحسر عني ظله ليمتد إلى مريديه!. سافر محمود، فقد كانت له فيزا، وبقيت في انتظار أن يحل الوباء عن مصر وأن تفتح الحدود، وأن أنتقل إلى جامع الأزهر. ولفترة الثلاثة أشهر التي انتظرت فيها، وحياة اللهو، والاختلاف إلى المدينة، ومكتب السيد عمر، طفقت صورة الحاج حسن وصالحة تبهت رويداً رويداً حتى خفت أن تنمحي...! وبطريقة ما، يعرفها المهربون ورجال الصحراء، قاموا بشحني مع اثنين من طلبة بنغازي على ناقلة للخردة، لم تعرف طريقاً يمر بالبوابة أو القرى حتى استقر بها المقام في الإسكندرية ... ويا خاش مصر منك ألوف!] على عجل من أمره مر كامل المقهور على البركة؛ كاتب القصة ـ المحامي في كتابه «سيرة شبه ذاتية».

هذا ما كتب عبدالله القويري وكامل المقهور وما كتبت في كتابي «سيرة بني غازي» عن بنغازي الأمس، أما بنغازي اليوم فتعيش عيدها تحت وابل من نيران، من صواريخ، من سيارات مُتفجرة، من جرافات صديقة مُحملة بالموت، بنغازي اليوم ومنذ أعوام تُشن عليها حرب ضروس وقتل مُمنهج ومُتأسلم، مُدعم ومُعزز من تُجار الحروب سادة الإرهاب والموت: قتلة في بني وليد، في غرغور، في ورشفانه، في القربوللي، في كل فج ليبي.

يا بنغازي وآل بنغازي من هم من مدن ليبيا بل ومن غيرها من البلاد كل عام وأنتم بخير هذا العام وكل عام

2–
يا أهلي وأخوتي وأبناء أخوتي وأصدقائي وجيراني والجار الجنب، يا أبناء مدينتي والنازحين إليها من تاورغاء وسرت ومصراتة ومن مدن عدة، يا آل حي الصابري أخوتي وأصهاري وأبناء العم والخال النازحين في أحياء بنغازي، يا كُل من تعيش في «رباية الذايح» كل عام وأنتم بخير مما يبعثون لكم من سنين من قتلى ومجرمين، ومن جرافات تحمل لكم ما يودون لكم العام تلو العام، يا أولئك ويا هؤلاء كل عام وأنتم بخير في عيدكم المحشو كعكعهُ بما يتمنون لكم وما يحب أولئك القتلة تجار الحروب: الموت أو الاستسلام.

يا آل بنغازي يا أهلي يقولون لنا: هل نبتت على رأسكم ريشة: من أنتم من أنتم من أنتم من أنتم من أنتم من أنتم من أنتم: لقد سمعتم صراخهُ وها الصرخة تُعاد ومُكبرها جرافة: كل ارتضى بقدره ولا يريدون مصيرك وما لحق بك من دمار ومُدمر: فكي نفسك أيتها المُكابدة المُتكبرة مما أنت فيه... هكذا يلهجون بحبك عفاك الله منه وممن صرخ يوما: حبيبتي بنغازي.

يا بنغازي وآل بنغازي من هم من مدن ليبيا بل ومن غيرها من البلاد كل عام وأنتم بخير هذا العام وكل عام ... وسلمتم أن تكونوا من الراكعين المُركعين اليوم في حربكم هذه منذ 15 فبراير 2011م وحتى هزيمة الإرهاب وتجار الحرب والمرتزقة من كل حدب وصوب. هذه بنغازي في عيدها هذا ومنذ سنوات مكلومة وفي حرب، ويوم سلمها القادم لا محالة نار على البُغاة، والسلام...