Atwasat

السم، والقمع!

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 13 مارس 2016, 10:49 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

سنة 1973 دارت معركة ثقافية، حامية، على صفحات صحيفة" الأسبوع الثقافي" [التي لعلها أول صحيفة في الوطن العربي تكرس، بالكامل، للشأن الثقافي] إثر نشر إبراهيم الكوني مقالته الشهيرة "حلم المفكرون فانهارت الحضارة وبقي روسو".

نُشر المقال بعد أحداث "الثورة الثقافية" التي سجن فيها النظام العديد من الأدباء والكتاب والمثقفين، وأفرج، بعد بضعة أشهر، عن البعض منهم، ممن لم توجه إليهم تهمة الانتماء الحزبي، وأَبقى الآخرين.

وما استفز الكثير من الأدباء والكتاب تركيز الكاتب على نقطة مؤداها أن الإبداع العظيم يولد، عادة، تحت البؤس والقمع.

طبعا، ليس في نيتي من إثارة هذا الموضوع الآن الإيحاء بأن الكوني كان يمدح أفضال القمع على الأدب ويبشر الحركة الثقافية الليبية بأدب عظيم سينشأ بفعل ما ينتظرها من قمع أعظم! فحتى لو افترضنا أن هذا كان مقصده، فإن فهما كهذا لا يرضي النظام القائم، حينها، بكل تأكيد، لأنه لا يرضيه اعتبار ما قام به قمعا، ذلك أنه كان ينظر إليه باعتباره "إنجازا ثوريا" مثل إجلاء القواعد العسكرية الأجنبية وطرد المستوطنين الإيطاليين وإنشاء عمارات سكنية محل أحياء أكواخ الصفيح وتوزيعها على المحتاجين!. كان معمر القذافي يرى في سجنه المثقفين محاربة "للمرضى والمنحرفين والعملاء" وتطهير البلاد منهم.

ولكنني أحببت أن أشير إلى الحساسية التي ينطوي عليها جمهور الأدباء والكتاب والمثقفين الليبيين إزاء القمع وما يمس حرية الفكر والرأي، إذ هبوا للرد على هذه المقالة بحماس وقوة، رغم القمع السافر الذي مورس على الثقافة والمثقفين من خلال ما سمي بـ"الثورة الثقافية"، بل إن بعض هذه الردود أتت من كتاب خرجوا، لتوهم، من المعتقل. ومن المؤكد أن الردود آنذاك كانت في الواقع ردودا على معمر القذافي نفسه ولم يكن مقال الكوني سوى فرصة وذريعة، ومن المؤكد أيضا أن معمر القذافي نفسه، وخدمه، كانوا يدركون ذلك. ما من شك أنها كانت لعبة خطرة، وقد لعبها الأدباء والكتاب والمثقفون الليبيون باقتدار.

أريد أن أوضح أن أدباء هذا الوطن وكتابه ومثقفيه قاوموا، في المجال الثقافي، القمع، وحاولوا التحايل عليه، وفق السبل المتاحة.

كان الكوني ينطلق من "مسلمة"، من جهة، ولعله كان يريد إبلاغ رسالة إلى النظام، من جهة أخرى. " المسلمة" يؤيدها، ظاهريا، وجود أعمال عظيمة أنتجت، فعلا، تحت أشد أنواع القمع شناعة. أما الرسالة فلعلها إبلاغ النظام بأن أفعاله القمعية هذه ستؤدي إلى إنتاج أعمال أدبية قيمة تفضح هذا القمع وتشنع به!.

سنترك أمر الرسالة، التي هي محل تخمين، ونناقش" المسلمة" المعلن عنها. وهي "مسلمة"، أو فكرة، ليست جديدة، وإنما نصادفها من حين إلى آخر.

ونحن، على العكس من ذلك تماما، ننطلق من مسلمة أخرى تعتبر أن الازدهار، عموما، والثقافي خصوصا،لا يمكن أن يأخذ مداه إلا في ظل الحرية، لقد ظهر المبدعون العظام الآوائل في التاريخ الإنساني في مناخ الحرية. هوميروس وإسخيلوس ويوربيدس في اليونان، وشعراء العرب قبل الإسلام. أما وجود أعمال عظيمة كتبت تحت القمع فلا يمكن أن يكون دليلا إلا على عظمة الروح المقاومة لدى الإنسان، التي تأبى القهر، وتحاول، ما أمكن، أن تستفيد منه رغما عنه.

القمع مخرب للعقل والروح، وما من جانب فيه يحفز على الإبداع. كان أحد أساتذتنا في الجامعة يقول: "الفنية في الفنان، وليست في موضوع الفن".

ونحن نقول: الإبداع في روح الإنسان المقاوم، وليست في القمع. السم قاتل، والأفاعي والثعابين والعقارب، وغيرها من الحيوانات السامة، تستخدمه للدفاع عن نفسها وقتل أعدائها، لكن العقل الإنساني المبدع يدخله في متاهات من المعالجات والعمليات المعقدة محولا إياه إلى أدوية يتغلب بها على أعتى العلل.

كذلك الشأن في الروح المبدعة التي تبدع تحت ظروف القمع.