Atwasat

وداعا للسلام

منصور بوشناف الأربعاء 11 مارس 2015, 10:10 صباحا
منصور بوشناف

يقول المفكر الأمريكي"نعوم تشومسكي" إن أول دعاية حكومية حديثة, كانت في عهد الرئيس"وودرو ويلسون" الذي انتخب عام 1916 وكان شعاره الانتخابي"سلام بدون انتصار" وكان الشعب الأمريكي في تلك الفترة ميالا للهدوء والسلام ولايحبذ التورط في حرب أوروبية, ولكن إدارة ويلسون التزمت بالدخول في تلك الحرب, وكان عليها أن تقنع شعبها الراغب في الهدوء والسلام بالحرب.

أسست إدارة"ويلسون" لجنة"كريل" للدعاية واستطاعت تلك اللجنة أن تقلب الرأي العام الأمريكي في غضون ستة أشهر إلى شعب يعاني هستيريا الحرب, يتاجر بها, ويروج لها ويريد تدمير كل شيء ألماني.

الكاتب الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للآداب"ارنست هيمنغواي" كان أحد ضحايا لجنة"كريل" فلقد انخرط في تلك الحرب في إيطاليا, وكتب بعدها روايته الشهيرة "وداعا للسلاح" ثم التحق بعدها بالحرب الأسبانية وكتب"لمن تقرع الأجراس".

في"وداعا للسلاح" يلتقي سائق الإسعاف الأمريكي بالممرضة الإنجليزية في أحد مسارح الحرب العالمية الأولى, يدخلان الحب وهما تحت القنابل والرصاص ليكون الحب ملجأ من ملاجيء الحرب"غير الحصينة" بالتأكيد, فهو ورغم الحب يصاب بشظايا قنبلة وهو يتناول الخبز والجبن, ويرى أشلاء أحد الجنود القريبين منه وهي تتناثر في الهواء ويختلط الخبز والجبن بالدم والأشلاء!!

بطل"وداعا للسلاح" الأمريكي المشبع بكل قيم الليبرالية والطهرانية الأمريكيتين, يشعر بعبثية الموت, وعدمية الحرب وهو نزيل أحد المستشفيات لعلاج جراحه إثر مواجهتة العبثية مع الموت.

بطلة"وداعا للسلاح" الإنجليزية البسيطة والمشبعة بكل تقاليد إنجلترا الديمقراطية تتعلق بالبطل الأمريكي وترى فيه ما تبقى لها وللعالم من نبل وعدل وإنسانية, إنه الإبن الحقيقي لكل القيم التي تعلقت وآمنت بها, إن سائق إسعاف الإنسانية بعيدا عن ساحات المعارك وجراحها لايصاب بحب ممرضة جرحى المعارك فقط, بل يصاب بجراح شظايا قنابلها المتساقطة في كل مكان لتنكب إبنة ديمقراطية إنجلترا على مداواة جراحه الروحية, ليرى فيها طوق النجاة من الحرب ومن الموت, وترى فيه ليس مريضها بل معالجها من كل آلام وعذابات الحرب والدمار ومنقذها من ذاك الجحيم البشري الرهيب.

هناك على أرض إيطاليا, حيث ولد وترعرع عصر النهضة وكبر دافنشي ومايكل آنجلو والرشديون"أتباع الفيلسوف العربي إبن رشد في أوروبا" وغاليليو, تلتقي كل تحولات أوروبا الكبرى, يلتقي عصر النهضة شاهرا مدافع دافنشي ودبابات مخياله المذهل ومسيح مايكل آنجلو المتجبر بردائه الأحمر القاني وهو يشق في"لوحة القيامة" البشرية إلى فسطاطين, فسطاط حطب جهنم وفسطاط سعداء الجنة, يلتقي إرث تلك الجغرافيا الرومية بحفيدة كرومويل والماجنا كارتا ومجلس اللوردات والعموم, بالطهراني الأمريكي, يلتقون جميعا, يحشرون ككنز رمزي في تنور الحرب والموت.

سلام بدون انتصار هذا ما يعود له بطلا همنغواي رغم تخلي الرئيس الأمريكي ويلسون عنه, ويرى كل منهما نجاته ونجاة العالم في رفيقه الآخر, يرى الطهراني الأمريكي النجاة في شعار"وداعا للسلاح" وترى إبنة ديمقراطية بريطانيا النجاة في ذلك الليبرالي الأمريكي الشجاع.

كانت نتيجة هذا الحب والألم حملا سفاحا, بذرة الليبرالي الأمريكي تنمو جنينا في رحم الإنجليزية الطيبة التي تحاول مقاومة عبث الحرب والقتل بالتمريض, ولكن هل بإمكان الأم والرحم أن يحافظا على هذا الجنين وسط الحرب والموت.

طلة"وداعا للسلاح" الإنجليزية البسيطة والمشبعة بكل تقاليد إنجلترا الديمقراطية تتعلق بالبطل الأمريكي وترى فيه ما تبقى لها وللعالم من نبل وعدل وإنسانية

على نهج فولتير يهربان إلى أرض محايدة, أرض لاحرب فيها, إلى سويسرا ملجأ القيم الديمقراطية الأخير, ليولد الجنين ويولد مستقبل لا سلاح فيه, هكذا خططا ونفذا من أجل مستقبل إنساني لجيل جديد.

أمام غرفة التوليد بمستشفى سويسري ينتظر الطهراني الأمريكي ميلاد ابنه وابن الإنجليزية الملائكة قلقا ليخرج له الطبيب السويسري ويخبره بأن السيدة أنجبت طفلا ضخما ولكنه ميت, طفل بحجم الطهرانية والأحلام ولكنه ميت, لتموت الأم بعده مباشرة, ليغرق الليبرالي الأمريكي المتشبت بالسلام والديمقراطية في العدم تاركا كل شيء للجنة"كريل " وصناعة الرأي العام وهستيريا الحرب, لدبابات دافينشي ومسيح"يوم القيامة" المتجبر بردائه الأحمر لمايكل آنجلو والذي وكما"بوش الإبن" يقسم العالم والناس إلى فسطاطين"معنا أوضدنا" وليظل الشعار الليبرالي الأمريكي الدائم"وداعا للسلام" وليموت همنغواي نفسه منتحرا برصاص مسدسه بعد مغامرات طويلة للصيد والقتل في غابات أفريقيا وفي بحر كوبا وليتحول صيده الضخم أيضا إلى فريسة لأسماك القرش النهمة.

كان السلام والديمقراطية لافتة الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية التي صفق لها وتبناها كل مثقفي ومناضلي أوروبا والعالم والتي سقطت مباشرة مع تكشير تلك الرأسمالية عن أنياب أطماعها الجديدة ودخولها مباشرة في حربها الجديدة ضد الشعوب والقوى التي كانت تطالب بالاستقلال والعدل, لينفض من حولها غالبية المثقفين ويغرقوا في العدم والتشاؤم, ولتتفجر ضدها ثورة الطلاب كانتفاضة روح تذبح ثم تستسلم للمخدرات والاستهلاك.

كانت الشعارات براقة والأحلام كانت بحجم الكون لتكون الخيبة أكبر وأعنف.

كل هذه المشاهد يصر المثقف العربي اليوم على إعادة إنتاجها وأدائها بتفان عجيب, يعيد تمثيل دور الطهراني المخدوع, ضحية النيران الصديقه, متناسيا نتائج"موسم هجرته إلى الشمال" حيث يقتل المثقف العربي الأفريقي المسلم بالخنجر"أداتنا النضالية الموروثة" يقتل "إبنة بريطانيا وديمقراطيتها" التي اشتهى فاكهتها وما أحبها أبدا, وكانت النتيجة علاقة مبنية رغم كل النفاق على الشك والكره والتربص للقتل, علاقة مثَّلها وإن تناسينا"مصطفى سعيد" بطل"موسم الهجرة إلى الشمال" المثقف العربي المسلم ذو النشأة والثقافة الإنجليزيتين, الذي يحفظ "شكسبير" عن ظهر قلب, ويرى نفسه"فيروس ايدز" زرع في ذلك النسيج الحضاري الاستعماري ليدمره.

يعودون بمختلف حللهم وازيائهم,ليخوضوا حربهم ضد اي مشروع للسلم الاجتماعي, وللديمقراطية انتقاما من "اوروبا" على رمال صحرائنا وبخناجرنا ورقابنا ,هاتفين " وداعا للسلام", متجاوزين طهرانية الامريكي الذي كتب "وداعا للسلاح" .