Atwasat

وَسِوى الرّومِ خَلفَك رُومٌ

منصور بوشناف الأحد 22 يونيو 2014, 03:16 مساء
منصور بوشناف

في أيامه الأولى بعد السجن، كان أبو الطيب المتنبي يخرج كل صباح، جائعًا وبائسًا ومنبوذًا، يمر على دواوين الحكومة طلبًا للقمة العيش ليطرد جائعًا وبائسًا ومرفوضًا. يمر على قصور التجار وقادة العسكر ورجال الفكر والدين، يمر على دكاكين الوراقين وأئمة الفرق وأساتذة الجواري والغلمان، عارضًا بضاعته للبيع، ليعود خائبًا وجائعًا وبائسًا ومرفوضًا.

بعد تطوافِ وضياعِ شهور من الجوع والذل عثر أبوالطيب المتنبي على مَن يشتري بضاعته الكاسدة، كانوا طبقة من الحرفيين والصناع الذين تستمتع بغداد بمنتجاتهم وتشبع جوعها من أياديهم، وتتزين قصورها ونساؤها بخيالات أناملهم الخشنة وتتسلح جيوشها من تحت مطارقهم وبنيران كيرانهم. كان الصناع والحرفيون في بغداد مَن أنقذ المتنبي من الجوع والضياع إثر رفض شِعره من كل مُسوِّقي ومستهلكي الشِعر في بغداد. فلقد كان موسومًا بالرفض وادعاء النبوءة وكان خريج سجون.

أنتج المتنبي في تلك الفترة العصيبة من حياته المتناقضة عشرات القصائد مديحًا في دباغي الجلود والإسكافيين والسروجيين، وحتى معلمات الغواني واللصوص وقطاع الطرق.

نقاد عصره و العصر الذي تلاه لم يكونوا بحاجة إلى جهد كبير لوصف وتسمية تلك القصائد، فاصطلحوا على تسميتها بــ"القصائد الدينارية" لأن المتنبي كان، وكي يعيش، يبيع القصيدة منها بدينار.

ضاعت قصائد المتنبي الدينارية، التي لم تكن مديحًا في سيف الدولة وهجاءً في "كافور الأخشيدي" ليظل مديحه في الطبقة المترفة الحاكمة وخسر التراث العربي أدبًا هامًا ومرحلة أهم. غيبت طبقة التجار والعسكر ومثقفوها أدبًا عبَّر عن فرسان آخرين ينتمون لطبقة عدوة بالنسبة لها، لتظل قصورها منيرة بشموس المتنبي الباهرة.

في آخر أيامه، وقبل اغتياله بقليل، وقف المتنبي منذهلاً في بغداد أمام صندوقِ عَجَبٍ عجيب، فوق الصندوق ستار أبيضُ شفافٌ ووراء الستار تتراقص ظلال بشر ماهم ببشر. هم ظلال لكائنات خفية، ربما تكون شياطين مرحة، أو ظلالَ كائنات ممسوخة أو أنها هلوسات أمة تحتضر.

كان المماليك الذين سيطروا تمامًا على الخلافة العباسية وشرعوا في سمل عيون خلفائها الواحد تلو الآخر والإلقاء بهم إلى الشارع يشحذون الخبز وينامون على الأرصفة

كان "القراقوز" أو "الأراجوز" يجتاح بغداد، طاردًا المتنبي إلى الاغتراب والعدم. كان المماليك الذين سيطروا تمامًا على الخلافة العباسية وشرعوا في سمل عيون خلفائها الواحد تلو الآخر والإلقاء بهم إلى الشارع يشحذون الخبز وينامون على الأرصفة. كان المماليك الترك وسوى الترك قد أحكموا السيطرة على الخلافة وبدأوا يُمشِّطون العقول عبر ثقافة "القراقوز" وينظفونها من ثقافة المتنبي وأمثاله. كان المتنبي وهو يشاهد القراقوز قد أدرك أن الأقلام قد جفت والصحف قد أحرقت.

كان، وقبل القراقوز، قد شاهد حملات المتطرفين في ذلك العصر وهي تهاجم أوكار الفساد، كما كانوا يسمونها، "دور الغناء والرقص والتسامر والشعر" وعاش محترقًا بحرائق دور الوراقين التي أطلقها أولئك المتطرفون. كان يعيش محنة ابن المقفع بطريقة أخرى. كانت روحه تُقطَّعُ نتفا وتحرق أمام عينيه, وكان عليه أن ينتحر!

اختار المنفى "غربة الفتى العربي واللسان " ولم يستطع فعاد ليموت وحيدًا وبائسًا ومنبوذًا.

كان كل شيء ينهار. كانت الكتب تُحرق وآلات الموسيقى تُحطَّم وصوت التكفير يعلو بلكنات المماليك وثاراتهم, وكان أهل المتنبي يتفتتون مهزومين خائفين.

لم يكن الروم وحدهم. كان "سوى الروم" هذه المرة. كانت جيوش التتار تجتاح الأخضر واليابس باسم الله والإسلام وكان على المتنبي أن يموت. أن ينتحر.

شِعر المتنبي بمديحه وهجائه وقصائده الدينارية, اختفى تمامًا من مشهد الخراب ببغداد، ولكنه لم يمت. ظل مختفيًا كفارس سجين، ولكنه على قيد الحياة، ليخرج من جديد، رغم موت المتنبي، حاملاً مشعل الحضارة الإنسانية الأقوى والأقدر على البقاء من كل سيوف وخناجر وفتاوى المماليك وما بعدهم.

المتنبي، والذي جاء لقبه من "النبوة" وتعني المكان المرتفع وليس "النبوءة " كما سوق عنه فقهاء المماليك، ظل بشعره حيًّا ونابضًا كقلب لا يموت, وظل الروم وسوى الروم يطاردونه، منذ ذاك الزمن وإلى الآن.