Atwasat

الكردينال الذي فقد وطنه

محمد عقيلة العمامي الإثنين 31 يوليو 2017, 09:44 صباحا
محمد عقيلة العمامي

ليس هناك ولاء من كائن لبقعة من الأرض، التي نسميها الوطن، يضاهي ولاء الطيور. كل الحيوانات، بما فيها العاقل منها، يكون ولاؤها لحيز مكاني دون سواه، تتقاتل من أجله، كمأوى مريح لتزاوجها، ومعيشتها ورعاية صغارها، ومرعى لإطعامهم. إنه في الحقيقة سلوك فطري لدي الحيوانات ذات الفقرات كافة: أسد، كلب، نمر، ضبع، بغل. إنسان. ولكن من أجل أمنها، أو سعيها نحو سبل العيش لها، أو أية أسباب أخرى، قد تنزح، أو ترحل، أو تهاجر. والهجرة تحديدا نصح الله بها الإنسان: "ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا" - النساء- ولكن الهجرة لم تعد ميسرة مثلما كانت بل زادت تعقيداتها إلى حد تهديد أمن العالم بحرب كونية.

من الخطأ أن نقول عن الإنسان مثلا: " أنه حر طليق كالطير" لأنه ليس هناك كائن ليس مرتبطا بالأرض أكثر من ارتباط الطير بها

إنه من الخطأ أن نقول عن الإنسان مثلا: " أنه حر طليق كالطير" لأنه ليس هناك كائن ليس مرتبطا بالأرض أكثر من ارتباط الطير بها، وأنا أقصد بالأرض: الطين والتراب والأشجار والسماء التي تعلوها، لأنه إن ضاعت هذه الأرض لأي سبب كان ضاع الطير تماما على الرغم من فضاء الله اللا متناهٍ؛ إن ضاعت الأرض ضاعت معها السماء ومات الطير لا محالة، فهو مقيد بالأرض في طعامه وشرابه وعلاقاته ببقية الطيور. إنه مقيد أكثر مما نتصور.

إن أغلب الطيور، بما فيها النسور والصقور الجارحة، التي نعتقد أنها أكثر مخلوقات الله حرية بما وهبها من فضاء فسيح؛ تعيش وتحب وتموت، وراء قضبان طبيعة خلقها الله لها، فهي أسيرة غرائزها لا تستطيع الفرار منها. هذه الغرائز تحدد مساراتها وأمنها ولا تحيد عنها أبدا. وما عليك إلاّ أن تنصت إلى تغريد طائر وتذكر ساعة ذلك وانتبه في اليوم التالي أو الذي بعده، وفي الغالب سوف تسمع الصوت نفسه وفي موعده. من شرفة بيتي أسمع، منذ أشهر، من بعد الغروب تغريدة متصلة يطلقها طير لم أره حتى الآن، وكانه يعلن لرفيقته أو لصغاره قدومه إلى عشه. غير أن مطالعتي للموضوع الذي أنا بصدده تؤكد أن عدم سماع صوته ثانية يعني أنه مات، أو أنه فقد وطنه.

(Jean &John George) باحثان في طيور أمريكا قالا: " في طريق عودتنا من رحلة علمية، لفت انتباهنا طائر من نوع يسمى (الكردينال) ، كنا نسميه (الدقاق الأحمر) بسبب خاصية نغم يستخدمه في نهاية تغريده. كان يطير حائرا مترددا في حيز يبلغ حوالي 150 متر مربع. كان يطير في الاتجاهات الأربعة، ثم يعود كما لو أن ثمة حاجزأ زجاجيا غير مرئي يمنع مواصلة طيرانه.

وسألت (جين) ماذا يحدث لهذا (الكردينال) المخبول؟. سوف يلقى حتفه بالتأكيد بين مخالب صقر أو منقار بومة. إنه لا يستطيع مواصلة طيرانه حتى الغابة إنه منهك تماما؟" ولقد راقبناه طويلا إلى أن انتبهنا إلى أن الأرض أسفله قد جردتها المحاريث والآلات من أشجارها وحشائشها وشجيراتها. لم تعد جزءا من الغابة فلقد كانت القطعة تُعد لمبان أو ما شابه ذلك. كانت تلك القطعة مساحته - لو شئنا نسميها وطنه – وهو لا يستطيع الإقامة في موطن كردينال آخر. إنه سجين تماما فوق وطنه الضائع ولا يستطيع أبدا الإقامة في مكان آخر، إنه سجين تماما لأن خوفه من اختراق وطن غيره أكبر من خوفه في البقاء في مكانه من دون مأوى. ولم يمض وقت طويل حتى تردد في الجو صوت بومة عندها علمنا أنها نهاية الكردينال، الذي فقد وطنه.

يا إلهي كم كردينال ليبي شرده أبناء الزنا؟. كم كردينال فقد انتماءه؟ وكم كردينال فقد ريشه؟

وتتحدث الباحثة عن المنازعات الإقليمية بين الطيور وكيف أنها تحل بالتغريد، وكيف أنها تبلغ مداها في مواسم التزاوج. قالت أن أنثى كردينال آخر، أعدت عشا فوق حيز غير حيز (زوجها) ولما باضت فيه وانتظرت وليفها ليلحق بهاـ رأته متوقفا عند نهاية مكانه وتردد كثيرا ولكنه عاد من حيث أتى، وظل على هذا حتى فقس البيض وأخذت فراخه تطلب الغذاء بتغريدها. ظل الذكر يجمع ما يستطيع من غذاء ويقف عند حد أرضه فتأتي رفيقته وتنقل الغذاء لأطفاله. وظل الحال على ما هو عليه إلى أن تمكنت الفراخ من الطيران وعادت بهم أمهم إلى وطن أبيهم. تقول الباحثة ليلة عودة أسرة الكردينال تجمعت الطيور بمختلف أجناسها وأقامت حفلا موسيقيا طوال الليل.

يا إلهي كم كردينال ليبي شرده أبناء الزنا؟. كم كردينال فقد انتماءه؟ وكم كردينال فقد ريشه؟. وكم كردينال مشرد فقد القدرة على التغريد؟". فلمن تجدي الكلمات؟. ولمن تغني الساحرات والنسرمات والبحر ما وبات جيفة تأكلها الكلاب".