Atwasat

جمال العصيان

سالم العوكلي الأحد 11 ديسمبر 2016, 11:19 صباحا
سالم العوكلي

في نهاية فيلم (النوم في العسل) تحتشد مظاهرة في الشارع خلف عادل إمام، لكنه فجأة يكتشف أن لا مطلبا محدداً لهذه المظاهرة المرتجلة التي قامت بسبب تفشي العنة في المجتمع، يتلفت إمام في كل الجهات محاولا البحث عن هتاف أو شعار لهذه المظاهرة التي تعبر عن مكبوت جماعي يصعب التصريح به، وتلقائيا يرفع صوته قائلاً آآآآآآه. ويلتقط الحشد هتافه وهم ويرددون وراءه آآآآآآآآآه.

قد يكون العصيان المدني نوعا من العبث حين لا تكون له مطالب محددة، وحين لا تكون هناك دولة أو إدارة أو سلطة سياسية بالمعنى الذي يرقى إلى مفهوم العصيان الحضاري والمنظم؟

التعريف الأكاديمي الذي صاغه كل من جون رولز، وجي هابرمس، لمفهوم العصيان المدني: "هو عمل سلمي سياسي عام، يمارس بكامل الوعي. يتشاكل مع القانون، ويتخذ غالبا كوسيلة لتغيير تشريعات أو قوانين في سياسة الحكومة. يتوجه العصيان إلى حس العدالة لدى غالبية المجتمع وينتقد عدم احترام أسس التكافل الاجتماعي بين أفراد يتمتعون بالحرية والمساواة في الحقوق".

ويعرف بيير هيرنغرين العصيان المدني في كتابه "طريق المقاومة: ممارسة العصيان المدني" بأنه: "نشاط شعبي متحضر يعتمد أساساً على مبدأ اللاعنف، ومسلك العصيان المدني يمثل احتجاجا ضد إجراء أو قرار تتخذه السلطة حتى ولو كان هذا المسلك غير متقيد بالقانون، وقد يكون الهدف الحفاظ على ظاهرة معينة أو المطالبة بتغييرها".

ثمة اتفاق في العديد من التعريفات على أن العصيان المدني آلية احتجاج لها مطالب محددة تتم في دولة قائمة بدستورها وقوانينها ومؤسساتها، وفي الغالب في دولة ديمقراطية يشكل العصيان المدني فيها حقاً مكفولاً دستورياً، لأن العصيان المدني سلوك ديمقراطي في حد ذاته، أو بمعنى آخر تكمن قوته في أن تعصي القانون وتطيعه في الوقت نفسه، ما يجعله في الواقع أرقى صور التمرد والمقاومة والرفض والاحتجاج التي تمارس بشكل سلمي كامل وبطريقة حضارية.

طبقا لهذا التصور هل يمكن أن يرقى الوضع في ليبيا إلى مستوى من مستويات العصيان المدني، خصوصا ونحن نعرف أنه يمثل ثقافة لدى المحتجين ولدى السلطة في الوقت نفسه، كطرفين يحترمان قواعد وأخلاقيات هذا الاحتجاج السلمي؟ وهل البنية السياسية والاجتماعية الليبية قابلة لتطبيق مثل هذا الخيار.

العصيان عادة ما يمثل نوعا من التفاوض بين طرفين، المجتمع أو المواطنون أو فئة منهم أو أقلية في طرف، والسلطة السياسية بجهازها التنفيذي في طرف آخر، وإذا ما اعتبرنا أن الطرف الأول متوفر في ليبيا؛ بل إنه ممثل في مجتمع كامل يمر بظروف سيئة والاحتقان فيه قد بلغ ذروته، فما هو الطرف الثاني؟ هل ثمة سلطة محددة تتحمل مسؤولية ما يحدث في ليبيا، أو جهاز تنفيذي محدد؟ أو بمعنى آخر هل سيشكل بقاء قدر كبير من المواطنين في بيوتهم، وإقفال المدارس والجامعات والمحلات التجارية .. إلخ، تهديدا لمصالح سلطة هي في الأصل غير محددة أو واضحة، أو شلاً لدولة هي مشلولة أصلا؟

بهذا المعنى يصبح العصيان عملاً منظماً في وجه الفوضى، أو بالأحرى، العصيان المدني نظام للرفض يهدد نظام السلطة بالفوضى حتى تستجيب للمطالب، وحين تكون السلطة للفوضى، أو الفوضى مفيدة للسلطات التي تتقاسم البلد، فإن هذا التهديد فارغ من المعنى وفقاً لهذه المعادلة البسيطة.

ومجرد أن أجهزة إعلام مناطق الشرق الليبي تتحدث عن دعوات العصيان التي ظهرت في طرابلس وكأنه تمرد في دولة مجاورة ضد سلطة أخرى عدوة، فإن هذا يوحي بهذا الواقع السياسي غير المهيأ لمثل هذا النوع من المعارضة، فالعصيان غير مرتبط بطرابلس أو المنطقة الغربية، كما يروج له، لأن معاناة الليبيين واحدة والأطراف التي تتحمل المسؤولية هي نفسها، حتى وإن كانت غير منتظمة في سلطة أو كيان إداري واحد. كما أن الهدف ليس إصابة الدولة بالشلل لأنها مصابة به أصلا ، ولكن الهدف خلق رأي عام وما يترتب عنه فيما بعد من ردات فعل جماعية تجعل السؤال الليبي سؤال قاعدة شعبية وليس أطراف تم تأجيرها أو التلاعب بها من قبل أجندات دولية وإقليمية. والأهم هو المران الاجتماعي على فكرة تكوين الرأي العام وعلى فكرة العمل الجماعي من القاعدة في مواجهة الخراب أو الظلم.

هذا هو الإيجابي في الحالة كلها، ولأن مجلس النواب يجاهر بأنه هو السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا والحكومة المنبثقة عنه هي الحكومة الشرعية فمن المفترض أن يفهم أنه المعني بهذا العصيان، أو يتعامل مع واقع أن هذا العصيان المدني ضد هذه السلطات الشرعية، لأنه لا معني ولا مصداقية لعصيان مدني إلا إذا كان ضد السلطة الشرعية، والسلطة المنتخبة خصوصاً، التي تُحملها شرعيتها مسؤولية ما يحدث على الأرض، ومن جانب آخر تؤكد آلية هذا العصيان على مبدأ ضمني هام يتعلق بالحفاظ على المسار السياسي الذي أفرزته الصناديق وهو مطلب مبدئي كامن في شكل العصيان قبل أن يكون في مضمونه.

من هذا المنطلق فإن العصيان دون إدارة مدنية تنظمه، ودون مطالب مدروسة وممكنة التحقيق حسب الجدولة الزمنية، سيكون مثل تظاهرة فلم النوم في العسل. مجرد آآآآه طويلة يرددها الناس في مظاهرة خرساء أو داخل بيوتهم.

لابد للعصيان أو الاحتجاج أو التظاهر أو الاعتصام ،أو غيرها من مظاهر الاحتجاج، أن تكون معبرة عن الأمل بقدر تعبيرها عن الألم ، والأمل لن يتأتى إلا بمطالب محددة يرتبط بها زمن هذا العصيان، وتكتيك تصعيدي في حالة إهمال هذه المطالب. وستبقى المطالبة بالعصيان أو حتى تنفيذه بشكل جزئي بادرة مهمة من أجل الإيحاء للشارع؛ الذي مازال يمارس النوم في العسل حتى وهو نائم في الحنظل، أن حضوره عبر أية فكرة للرفض والاحتجاج ستفزع العابثين بمستقبل الوطن والمواطن، وتنقل الأزمة إلى منطقة أخرى يشكل فيها الشارع طرفا مهما تم تناسيه من قبل السلطات المتعاقبة ومن قبل المشاركين (غير المخولين من الشعب) في الحوارات والذين لم يقترحوا أية بادرة أو فكرة للاستفتاء الشعبي حول قضايا مصيرية تهم سكان هذه الجغرافيا التي اسمها ليبيا.