Atwasat

استسهال الحائط القصير

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 01 مايو 2016, 12:06 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

يشكل المثقفون، وفي الطليعة منهم الأدباء والكتاب والمفكرون، هدفا سهلا، لهجوم من أربعة محاور!

هناك، أولا، محور أناس عاديين. وهناك، ثانيا، محور أعداد معتبرة من المثقفين والأدباء والكتاب أنفسهم. هذان المحوران يشنان هجوما مكثفا يستخدمان فيه أسلحة اللوم والانتقاد والتوبيخ والانتقاص ضد منتجي الثقافة بدعوى إحجامهم عن تأدية دورهم "المناط" بهم خصوصا في الأزمات. وهناك، ثالثا، محور الأنظمة القمعية والاستبدادية التي تشن هجوما ضاريا على المثقفين فتحاصرهم بالمنع من الكتابة أو بإيداعهم السجون، أو بإلجاء القادرين منهم إلى المنافي الاختيارية. وثمة، رابعا، محور جديد ظهر في حوالي العقود الثلاثة الأخيرة هو محور الجماعات الدينية الإرهابية التي تلجأ إلى الاغتيال. ففي جميع هذه الحالات يتم "استقصار حائط" المثقفين، كما يقول التعبير الشعبي. أي استغلال فرصة عوز المثقفين من أي نوع من الحصانة والحماية.

إذا كنا نلتمس بعض العذر لهذا الموقف من قبل الأشخاص العاديين فإنه يبدو غريبا ومستغربا من قبل المثقفين أنفسهم، إنهم بسلوكهم هذا إما يمالئون الجمهور أو يجلدون ذواتهم كمثقفين، وبالتالي يجلدون غيرهم أيضا. وفي جميع الأحوال يدل هذا الموقف على حالة نفسية ينبغي بحثها في إطار "سيكولوجيا معاداة المثقفين".

كنت قد تطرقت إلى هذا الموضوع شفهيا في أكثر من مناسبة ثقافية، كما كتبت مقالا بهذا الشأن في" بوابة الوسط" 24. 3. 2014 وهنا أريد أن أركز وأفصل في نقطة أعتبرها جوهرية وتعالج المسألة من زاوية نظرية. وهي نقطة تتعلق بطبيعة المثقف وتنطلق من السؤال التالي:

هل يوجد المثقف كـ"نموذج" مثلما هي الحال في نموذج الطبيب والمعلم والموظف والشرطي، إلخ؟
الواقع أنه لا وجود للمثقف كنموذج على هذا النحو. وإذن، لا يوجد مثقف وإنما يوجد مثقفون ينتمي كل منهم إلى قوة من القوى الاجتماعية المختلفة ويتبنى مواقفها.

بالنسبة إلى الطبيب والمعلم والجندي إلخ، تحدد له وظيفتُه دورَه في المجتمع. أي أن الدور "يناط" به من الخارج بحكم الوظيفة. أما في حالة المثقفين فإن المثقف المعين هو الذي يختار دوره بمقتضى الرؤية الفكرية والثقافية التي يتبناها ومصالح الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي يلزم نفسه بالدفاع عنها. فالمثقف التقليدي يختار لنفسه دورا غير ذلك الذي يختاره المثقف الحداثي، والمثقف الديني ينخرط في دور يتعارض مع الدور الذي يتبناه المثقف العلماني، وهكذا.

في بعض الحالات يتداخل الدور المفروض بحكم المهنة مع الدور الذي يتبناه نفس الشخص باعتباره مثقفا. وسآتي هنا بمثال دالٍ:
في السنة الثالثة من التعليم الثانوي القسم الأدبي كان لدينا مدرس تاريخ فلسطيني. كان منهج التاريخ مكتوبا من أفق رؤية قومية تتعامل مع المنطقة العربية ككيان موحد ويدرس تاريخها بشكل أفقي. ففي الفترة العباسية مثلا أو العثمانية أو الاستعمارية يدرس المنطقة ككل وليس كل قطر من الأقطار العربية كوحدة منفردة. قام هذا المدرس بإعادة بناء المنهج بشكل جديد بحيث كان يركز على كل قطر منفردا على نحو يتسلسل تاريخه في كل الحقب، أي حوله إلى دراسة عامودية وطلب منا أن نعد كراسة تتبنى هذا التصميم.

فماذا يعني ذلك؟
يعني أن هذا المدرس التزم بدوره التعليمي الذي حددته له وظيفته (وكان مدرسا مقتدرا)، لكنه كمثقف يتبنى فكرا إسلاميا سياسيا لا يعترف بالقومية اختار دورا آخر يمرر من خلاله رؤيته السياسية الرافضة لمبدأ القومية، حتى وإن كانت آلية إعادة بناء المنهج التي انتهجها لا تغطي متطلبات رؤيته بالكامل. ومن هنا ينبغي أن نحدد أي نوع من المثقفين نستهدفه باللوم.