Atwasat

نغم في ذاكرتي

محمد حسين كانون الإثنين 29 مايو 2017, 10:18 صباحا
محمد حسين كانون

خليفة الفاخري، مبدع غادر دون استئذان. يوم رحيله خرجت بنغازي بكل أطيافها تودعه، وتبكيه، كانت مشاعر الحب والود والانتماء هي التي تربطه بالمدينة، وهي التي تربطه بأهلها، الذين ارتبطوا به وِجدانيّاً من خلال إبداعاته القصصية التي جعلت الكل يرى نفسه في أشخاصها، اتّسمَتْ كتاباته بأسلوب جديد لم يألفوه من قبل، كان ينقلهم بثقة إلى رحاب كلماته، التي ينحتها مثلما قال صادق النيهوم، وكان وراء ذلك الإبداع موهبة حقيقية لم تخلق من عدم؛ الله وحده الذي يهبها لمن يشاء.

حبا الله الفاخري، الذي كنتُ أحب أن أناديه «جَنْقي العظيم» بموهبة الكتابة النثرية بأدوات جمالية لغوية رائعة تحرك المشاعر وتنفذ إلى القلوب في إطار من الرمزية المحببة التي تضيف لقصصه أبعاداً تصويرية جميلة، فوصلتنا كلماته كنافورة ملونة تعكس أعماق جنقي الإنسان.

محمد عقيلة العمامي سخَّر موهبته الرائعة في أدب الرواية لكتابة سيرة صديقه الراحل في كتاب سماه (منابت الريح) فجاء كملحمة صادقة عن سيرة الفاخري الأدبية بكل تفاصيلها ومراحلها وجاءت انعكاساً حقيقياً لمشاعر الود والصداقة العميقة التي كانت تربطهما وما نتج عنها من معايشة يومية ساعدت في عرض موهبة الفاخري وأسلوبه ومعاناته بواقعية وأمانة.

كان لقائي الأول مع خليفة سنة 1964 بمقر نادي التحدي القديم الذى يقع بالطرف الشمالي من ميدان الفندق البلدي، حيث قدمني إليه صديقي وصديقه- مفتاح الدغيلي- كنت سعيداً جداً بذلك اللقاء لأنّ مفتاح كان على مدى العام السابق لذلك اللقاء يحدثني كثيراً عنه وعن دماثته وثقافته وسعة اطلاعه على الأدب العربي والأدب العالمي المترجم، وولعه بشعر المتنبي وشعر نزار قباني، لذلك حرصت على ذلك اللقاء الذي أفضى فيما بعد إلى صداقه وأخوة حقه استمرت وزادت في التقارب إلى درجة فناء كل منا في ذات الآخر حتى الوداع الأخير.

كان لزيارة نادي التحدي هدف آخر هو رغبتي في المشاركة في إقامة نشاط مسرحي من خلال أنشطة ثقافية وفنية بالنادي للتواصل مع الشباب والمثقفين من منتسبي ومشجِّعي النادي، الذين يشكلون أرضية خصبة جاهزة للتعاون في مجالات التوعية والمشاركة في مسيرة قهر التخلف الطويلة والمتعبة. رحّب خليفة بالمشروع بل أصبح يمثل الركن الأساسي فيه، وقد اتفقنا على تكوين لجنة ثقافية بالنادي بعضوية ثلاثتنا. بدأنا النشاط بمسرحية أولاد الفقراء، من أعمال مسرح يوسف وهبي التي تصور معاناة الطبقة الكادحة من تسلط الإقطاع، وقد نجحنا رغم ضعف الإمكانات البشرية والفنية، وذلك بفضل تعاون منتسبي النادي، كان الجميع في منتهي السعادة يملأهم حماس لا مثيل له.

واصلت اللجنة مسيرتها من خلال مساهمة في مسابقة النشاط المتكامل الذي تقوم فيه النوادي كافة. فقدمت اللجنة مسرحية (عهد الشيطان) لتوفيق الحكيم الذي تميز في المسرح الذهني. وهي مسرحية من فصل واحد وثلاثة مشاهد وثلاث شخصيات هي الفيلسوف وزوجته والشيطان، وفحواها أن الشيطان جاء إلى الفيلسوف يشكو له من ظلم البشر الذين يقومون بتدمير العالم باختراع جميع مواد التدمير من الديناميت إلى الذرة ثم يضعون اللوم عليه. وقد أدى خليفة دور الفيلسوف، أما الفنان عمر المخزومي رحمه الله أدّى دور زوجة الفيلسوف، وقد حول العزيز خليفة والفنان المرحوم عمر المخزومي آخر مشهد في المسرحية إلى ملحمة فكاهية غير عادية حيث خرجا عن النص بحوار تقليدي ساخر بين زوج وزوجة ليبيين، جعلت الجمهور يستغرق في ضحك عفوي، حتى نهاية المسرحية. لقد تميز النشاط الثقافي في نادي التحدي بروح ثقافية، وكان الفاخري يمثل عمودها الفقري، ثم ألقى محاضرة متميزة عن المتنبي، التي أعد لها إعداداً جيداً، وضع فيها الكثير من فكره الخاص وأيضاً من قراءاته الأدبية العميقة التي وظف رموزها في موضوع المحاضرة، ووظف أيضاً ما استلهمه من رؤى في كتابات طه حسين عن المتنبي وما أورده أبو العلاء المعرّي في مخطوطته «شروح في شعر المتنبي» مع سرد موجز للتطورات التاريخية للشعر الرافض الذي يعانق معاناة الإنسان ابتداء من أسطورة سارق النار وانتهاء بأشعار البياتي وآخرين.

شمل النشاط أيضاً إصدار جريدة حائطية رائعة سماها «المتنبي» الذي يعد شاعره المفضل، صدرت في ثلاثة أعداد وكل عدد فيه تجديد في الإخراج والشكل عن سابقه، وكان المبدع وحده يقوم بإخراجها والكتابة فيها بخطه الجميل المتميز وبكتاباته الأدبية عن مواضيع يختارها بعناية وموهبة مثل تناوله قصة الشيخ والبحر وما تهدف إليه، للكاتب هيمنجواي الذي يعشق خليفة كتاباته، وغيره ممّن قرأ لهم من الأدباء الذين يؤمن بهم وتستهويه إبداعاتهم.

ثم تأسست جريدة الحقيقة في العام 1964، وفي مسافة سنتين أصبحت منارة ثقافية مهمة وبدأت تنشر مقالات الفيلسوف الراحل صادق النيهوم وقصص المبدع خليفة الفاخري وآخرين. ولقد انبهر جمهور القراء في ليبيا ولأول مرة بأسلوب الصادق الجديد بما فيه من جرأة وسخرية ناقدة لممارسات المجتمع الليبي الخاطئة، موظفاً كتاباته لهدف واحد هو قهر التخلف العلمي والاجتماعي والديني بالدرجة الأولى. مستخدماً وموظفاً فلسفته، وأيضاً في حياته الخاصة.

وبدأ معه في نفس التاريخ خليفة الذي فاجأ أيضاً القراء بإبداعه ومنحوتاته الأدبية الرائعة بأسلوب جديد بحق، حيث كان يوظف جمال الأسلوب في بناء المشهد ويعززه بإسقاطات رمزية تستحضر الماضي وتظهر الحاضر وتستشرف المستقبل، إلى درجة أصــبح الرمــز عنده من أساسيات بناء نصوصه. واستمر الرمز والصورة لدى خليفة جزءاً مكملاً لجماليات كتاباته، فبعد أن يختار موضوع قصته يبدأ في صياغة هيكليتها ليشرع بعدئذ في نحت حروف كلماته ويحولها إلى فسيفساء تعكس معاناة الإنسان في سرد إيقاعي مترابط مفعم بالصور والألوان، مستنداً إلى موهبته الخارقة، وصدقه البالغ، والتزامه بالقيم الإنسانية، ووفائه لوطنه ولأهله ولأصدقائه، وهو ما يميز الرائع خليفة الفاخري. سنظل طويلاً نذكر جنقي كرمز أدبي حقيقي لبلادنا.