Atwasat

عن راحة البال

جمعة بوكليب الأربعاء 07 أغسطس 2024, 01:27 مساء
جمعة بوكليب

كانوا، في زمن مضى، يأتون بالرماد المتبقي في كوانين النار، ويضعونه في طريق النمل، وفي الحفر التي يدخل إليها ويخرج منها. وكنت صغيراً أراقب ما يفعلون، وأكثر من علامة استفهام تبدو واضحة في نظراتي.

النمل استقطب انتباهي في سن مبكرة. كنت لا أتعب من مراقبته، وهو يسير في مسارب وطوابير منتظمة، ذهاباً وإياباً، وأتحسر لأني لا أستطيع معرفة ما يحدث داخل الحفر الضيقة التي يختفي داخلها، ويخزن فيها ما يجمعه من مؤونة.

حيلة الرماد، رغم بدائيتها، كانت ذكية وناجعة. لكن، عقب فترة زمنية قصيرة أو طويلة نسبياً، يكتشف النمل طرقاً ومسارب أخرى، ويواصل حياته. ويعاودون هم اللجوء إلى الرماد. كان هذا قبل اختفاء الكوانين، وظهور أدوية المبيدات الحشرية. الآن، ليس على المرء سوى الذهاب إلى تلك المخازن المتخصصة المنتشرة في كل مكان، واختيار وشراء ما يراه مناسباً من مبيدات حشرية سامة تتكفل بالقضاء على وجود النمل في البيت أو في الحديقة.

هناك نوعية أخرى من النمل لا تُرى بالعين، ولا يمكن محاربتها برماد كوانين الدنيا كلها، ولا بالمبيدات الحشرية المتنوعة، لأنها تقيم تحت جلودنا، ويصعب حتى على أحدث الأجهزة الطبية التقاطها والتخلص منها. هذه النوعية من النمل، ربما لا يرصدها إلا من تجاوز العام الستين من العمر. فهم أكثر من غيرهم في الإحساس بوجودها تسري تحت جلودهم، وتسرق منهم راحتهم وطمأنينتهم، وتسبب لهم الأرق. ربما يسمي البعض منهم تجاوزاً تلك الحالة «توتر الروح». وهو وصف غائم عائم، لا يدل على معنى محدد ومفهوم.

وفي الواقع، واستناداً إلى ما يقوله العلم، لا يوجد نمل من أي نوع، تحت جلد أي منا، سواء أكان شاباً أم كهلاً، إنما أوردة وشرايين، مخصصة لجريان الدم في الدورة الدموية. وحين تفشل تلك الأوردة والشرايين في أداء تلك المهمة، لأسباب عديدة، تتوقف الحياة.

لكن في لحظات معينة، تختلف من شخص إلى آخر، في الطول الزمني والظروف المسببة، نشعر أن ما بداخل تلك الأوردة والشرايين ليس دماً يجري يمدنا بالحياة، بل شيء ما، أقرب ما يكون إلى أسراب لا تنتهي من نمل، من مختلف الألوان والأحجام، تحول بيننا وبين التمتع بالحياة.

أهو القلق الإنساني من حياة غير مستقرة، تتقلب من حال إلى حال، ولا نملك سيطرة على مقاليدها؟ أم هو الخوف مما يحمله لنا المجهول، ويؤرقنا ويسرق من عيوننا النوم ومن قلوبنا الطمأنينة، ويجعلنا نشعر وكأن أوردتنا وشرايينا تحولت إلى مسارب لنمل لا يتوقف عن السير؟

«بنادم» كومة متحركة من أحاسيس ومشاعر مختلفة ومتضاربة. الفرح نقيض الحزن. القلق نقيض السكينة. الخوف نقيض الأمان. الحب نقيض الكراهية..... إلخ. وكلها تعتمل داخله. وعلى سبيل المثال، حين نشعر بالطمأنينة، ربما نحس ذلك في سلاسة ضربات دقات قلوبنا، مما ينعكس علينا شعورياً بالهدوء. ذلك الهدوء يسري أيضاً في الأوردة والشرايين، فنشعر بتأثيراته على حركة النمل تحت جلودنا.

أنا في هذه السطور، لا أقوم بدور طبيب نفساني، ولا أزعم ذلك. فقط، أحاول رصد وتفسير ما يحدث تحت جلودنا من مشاعر وأحاسيس، مثل أسراب نمل لا تتوقف، تختلف من شخص إلى آخر في أعراضها، وفي الكيفية التي يتعامل كل منا معها.

الحالة النملية تلك تتزايد مع التقدم في العمر ولا تدع مجالا للسكينة في النفوس. وهذا يعني أن المقولات التي تؤكد على هدوء وراحة بال الكهول في حاجة إلى إعادة مراجعة. الصغار والشباب لاهون بالحياة، لكن الكهول بسبب ما يشبُّ في قلوبهم من خوف فراق الدنيا يتفرغون لمهمة الرصد الجواني. الهدوء الخارجي في ملامحهم خادع، لإخفاء الجزع من مصير ينتظرهم، لم يعد مجهولاً بحكم العمر ويخافونه. لذلك السبب، تمر بهم أحياناً فلا يرونك. ما يسمى بـ«توتر الروح» يفصلهم عن الزمن الحاضر.

بعضهم لا يكف عن الالتفات للخلف بحسرة. وأكثرهم يترصدون القادم نحوهم وليس بمقدورهم إيقافه. حركة النمل تحت جلودهم، ذهاباً وإياباً، متواصلة لا تتوقف. ويتمنون لو أن بمقدورهم ذر حفنة من رماد على تلك الأسراب النملية كي تتوقف، وحتى يمكنهم، في آخر المشوار، الحصول على قليل من راحة بال دنيوية يستحقونها.

 

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»