Atwasat

(Tyranny of Facebook) أو (طغيان فيسبوك)

سالم العوكلي 2 يوم
سالم العوكلي

في موقع جريدة «الوسط» الليبية علّقتُ على مقالة مهمة للكاتب أحمد الفيتوري عنوانها «يجول شبحا موسوليني وهتلر على الرقعة!» والعنوان جملة فعلية تبدأ بفعل لازم وتنتهي بعلامة تعجُّبٍ، تنطلق من ظاهرة مرعبة، تحديداً حيال ما يسمى العالم الثالث ومواطنيه الذين كم رأوا في أوروبا جنتهم الموعودة لو ضاق بهم الحال في أوطانهم، بل مرعبة لمواطنين أوروبيين لا يحملون بصمة الحمض النووي الأوروبية رغم أنهم يمثلون الجيل الخامس أو الرابع من أجدادهم الذين اختاروا دولاً أوروبية موطناً لهم، وشاركوا في حروب الدفاع عن ديمقراطيتها وفي مشاريع تنميتها.

هذه الظاهرة هي ما تنذر به الاستطلاعات من صعود كبير في شعبية التيارات اليمينية المتطرفة، التي تبني برامجها علناً على فوبيا الآخر وعلى نقاء العرق. يقول الفيتوري: «وفي مشهد الرعب هذا، يجول شبحا موسوليني وهتلر على الرقعة، وحتى إن كان لاعَبا شطرنج الخطر، من العصر السيبراني، فإن اللاعب الرئيس: الخوف من الآخر». ولن أمضي كثيراً في مناقشة هذه المقالة المهمة، لكن سأتطرق إلى ما ترتب عن تعليقي عليها من عقابٍ فيسبوكي يشي بفاشية أكثر خطراً يجهزنا لها العالم السيبراني في جانبه المتوجس، وكأن حمى اليمين تجتاح بعدواها حتى هذه المنصات التي رأينا فيها يوماً فضاءً مستقلاً للديمقراطية ولحرية التعبير، لنا نحن تحديداً من عاشوا ويعيشون في ظل أنظمة تتوجس من الرأي.

كان تعليقي منذ بدايته يعلن على أن ما سيأتي يقع في سياق المزحة وإن كانت لا تخلو من تجهم النتيجة المتوقعة، ولأن حديث الصديق أحمد الفيتوري كان عن (اليمين) الأوروبي، ولأننا في ليبيا من أكثر الشعوب حلفاً باليمين (عليا اليمين) كتبت هذا التعليق المازح «عليَّ اليمين، اليمين قادم بقوة، وتوقعْ صور هتلر وموسوليني كأبطال قوميين على عملة اليورو في وقت ليس بطويل».

وانطلاقا من أن عملاتنا العربية وكثير من عملات أمم أخرى تتصدرها صور طغاة حاليين أو طغاة بُعثوا من التاريخ، خاصةً حين يُرد الاعتبار لبعض شخصيات التاريخ الملتبسة في أوقات الأزمة أو لحظة الفزع من تلاشي الهوية، ومن أهم مظاهرها المسيرة الحاشدة التي ذهبت إلى قبر موسوليني احتفالا بفوز الموسولينية جورجيا ميلوني التي تعتبر الدوتشي قدوتها وملهمها كنوع من رد الاعتبار لأحد سفاحي القرن العشرين الذي تراه بطلاً قومياً، رغم ما حفل به تاريخه من إجرام في حق قطاع واسع من شعبه وشعوب أخرى احتلتها إيطاليا، من ضمنها معسكرات إبادة جماعية أقامها في مستعمرة ليبيا وضعتْ عشرات الألوف خلف أسلاك شائكة ليقتلهم المرض والجوع ومشانق محاكم الطواريء الطائرة.

فجأة وصلني إشعار من الـ«فيسبوك» يعلمني بأن التعليق جرى حذفه، وببعض العقوبات التي اتخذها ضد حسابي الشخصي، وحين حاولت أن أوضح سوء الفهم أو عدم التفاهم بالمطلق، اكتشفت أني يجب أن أكون ضالعاً في التقنيات الرقمية وفي لغة «فيسبوك» الإنجليزية كي أدافع عن نفسي، ومن المفارقات التي تجعل المزحة مستمرة أن التعليق الذي اعترضه بوليس «فيسبوك» كان مكتوبا باللغة العربية، بمعنى أني أعاقب في لغتي العربية ويجب أن أدافع عن نفسي باللغة الإنجليزية التي لا أجيدها.

لذلك قررت أن أكتب هذه المقالة لأدافع من خلال هذا المنبر عن تعليقي الذي بدأ بمزحة على هامش المقالة الأصلية التي تتطرق إلى أن أشباح هتلر وموسوليني تجول على رقعة الشطرنج المطروحة على اتساع هذا العالم، معبراً فيها الفيتوري عن رعبه من عودة الهوى الفاشي الذي دمر يوما مدينته بنغازي مثلما دمر مدناً أوروبية، وهذا ما يعطينا حق نقده أو حتى السخرية منه، وحتى العاقلون من أصحاب (الدم النقي) في أوروبا تقشعر عقولهم من هذه الظاهرة التي قد تؤدي إلى حروب أهلية في أوروبا نفسها كما صرح الرئيس الفرنسي ماكرون محذراً: «من أن فوز اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة هذا الشهر قد يشعل «حربا أهلية». ومن هذا المنطلق أرفقت عنوان المقالة بترجمة إنجليزية لعل محركات بحثهم تعثر على هذه المرافعة.

أنا لم أخترع شخصية جورجيا ميلوني التي صرحت أثناء حملتها الانتخابية بأنها تؤمن: «أن موسوليني كان سياسيًّا جيدًا، وهذا يعني أن كل ما فعله قد فعله من أجل إيطاليا.. لدي علاقة هادئة مع الفاشية، فأنا أعدّها فصلًا من تاريخنا الوطني». وعثرت على هذا التصريح منشوراً بترجمة عربية وبلغات أخرى في «فيسبوك» دون أن يحذف. كما كانت صورة قد التقطت للعضو الجديد في حكومة ميلوني، غالياتزو بيغنامي، وهو يرتدي قميصا أسود اللون وشارة النازية موجودة على منصة الفيس بغزارة.

لقد كتبت كثيرا فترة طغيان القذافي وبوليسه ولا أنكر أني كنت أكتب وأنا خائف، لكن ذاك الخوف أصبح لا يقارن بالرعب الذي أحس به من بوليس «فيسبوك» كلما نشرت إدراجاً أو تعليقاً، ليس لأن منشوراتي تتعارض مع سياسته أو احترازاته الأخلاقية، ولكن مأتى رعبي هو الفهم الخاطيء أو التأويل المرتاب الذي كانت تفعله أنظمة الاستبداد في منطقتنا فتعاقب دون محاكمة وقبل حتى أن تتحرى، وأنا أتحدث عن «الفيس» لأنه المنصة الوحيدة التي أتعامل معها. أشعر بخوف حين أكتب فقط كلمة (غزة) على «فيسبوك»، لأنها مفردة ملعونة ومتوجس منها بالنسبة لبوليس «الفيس» أو «مجلس الإشراف» الذي يرى في التعبير عن الألم من موت ألاف الأطفال في غزة خروجاً عن معاييرهم ومعاداةً للسامية.

كما سبق أن عاقبني «فيسبوك» من خلال تعليقي على صورة أطفال نشرت في حساب آخر، وسبب العقاب هو جملة (أحب الأطفال) التي يبدو أن الذكاء الاصطناعي ترجمها (I love kids) وهي جملة تثير الرعب في ثقافة العالم الغربي وفي لغاتهم، لكن بالنسبة لنا جملة عادية متداولة ولا تثير الخيالات نفسها التي تثيرها ترجمتها في المخيال الغربي، وتم عقابي وحجب بعض الخدمات الفيسبوكية حتى الآن إضافة للعقاب الحالي، والعقوبات كلها حاكمت مزحات، فالتعليق السابق أيضا كان مزحة أرفقت بضحكة مكتوبة (ههههه).

وتعليقاً على هذا العقاب، ذكرتُ في مقالة سابقة أن الذكاء الاصطناعي «هو الرقيب الآلي الذي قبض على كل هذه الجرائم في هذه المزحة القصيرة، بل إنه قرأها بشكل خاطي تمامًا حتى في سياق الدعابة. ويتحقق هنا كابوس كافكا فيما يخص العقاب الذي يسبق الجريمة، أو دون أن تتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه وتبيين سوء الفهم». لقد كان رعب دوستويفسكي في روايته «الجريمة والعقاب» من الجريمة التي يتبعها بحث الجاني نفسه عن العقاب، لكن كافكا قلَبَ المعادلة بكوابيسه التي عاشها في أوروبا الوسطى حين يسبق العقابُ الجريمة، في روايتيه: المحاكمة، والقصر.

وكوابيس كافكا أصبحت هي منطلقات المشرفين على «فيسبوك»: تعاقَب أولاً ثم ابحث بنفسك عن الجريمة أو بررها أو أطعن فيها، وفي غمار حصاري في هذا العالم المبهم وصلني من «فيسبوك» الآتي: إذا كنت تعتقد أن قرار ‏‎Facebook‎‏ يضر بمجموعة أو قضية تهمك، يمكنك الطعن لدى مجلس الإشراف. مجلس الإشراف ليس جزءًا من ‏‎Facebook‎‏. المجلس عبارة عن مجموعة من الخبراء الذين يصدرون أحكامًا مستقلة حول ما يجب السماح به على ‏‎Facebook‎‏. يمكنك الطعن حتى 10 يوليو 2024.

ولم أطعن لأني من الأساس لم أُمنح حق الدفاع عن نفسي، ولأن اللغة غير مشتركة بين المتهم وأشباح القضاة في محكمة «فيسبوك»، ولكن كل ما أريد قوله لبوليس الـ«فيسبوك» الذي يعرف كل المعلومات السوقية عن زبائنه ويبيعها بالمليارات للشركات، ألم يعرف ذكاؤه الاصطناعي أني كاتب وشاعر أصدرتُ 16 كتاباً، بين شعر ورواية ونقد وفكر، ونشرت في الصحف والمجلات والمواقع ما يربو على 1500 مقالة معظمها تهتم بالحداثة والحريات والديمقراطية وثقافة التسامح والعلمانية كابتكار بشري مهم، وهي معلومات موثقة في حسابي.

ووصف الصديق الكاتب جمعة كليب روايتي «جريمتك يا قرنفل» بعد أن قرأها دفعة واحدة ـ كما أخبرني على الخاص ـ بجملة موجزة «إنها رواية تصفي الحساب مع الفاشية بكل أنواعها»، وعلى الرغم من ذاك أعاقب مراراً بتهم من قبيل: التضامن مع الإرهاب، أو الاحتفاء بشخصيات خطرة، كنت أساساً أسخر منها في تعليقاتي وأحذر من بوادر عودتها، أو لأني سخرت في مزحة وبمرارة من صعود اليمين الراديكالي المخيف في الدول الأوروبية، والسبب دائماً ترجمة سيئة، أو حكم مسبق، أو فهم خاطيء، أو عدم تفاهم من الأساس.

وفي جميع الأحوال يمكنكم أن تحذفوا كل منشور يذكر فيه اسم هتلر أو موسوليني، لكن ليس من الممكن أن تمحوهما من تاريخ أوروبا الحديث، الحديث جداً، ولا يمكن أن تنكروا أنه الآن يعاد تدويرهما من جديد عبر صعود اليمين الأوروبي المتطرف الذي يجتاح صناديق الاقتراع بقوة في ما كنا نسميها (واحة الديمقراطية وحقوق الإنسان)، يمين الأسلاك الشائكة والجدران الفاصلة، أو كما يقر الفيتوري في مقالته، أن «اليمين يدق بكل يد مشرعة أبواب قصور السلطة في أوروبا، وبات ينجح المرة تلو المرة، وإن كان يُذكِّر بشبح موسوليني أو هتلر لكنه غير ذلك، فلكل ظرف دوافعه ومتطلباته ولكل عصر فاشيته».

ويبدو أن لعصر العالم السيبراني أيضا فاشيته المناسبة للعصر التي تجعلنا نحس بالذعر مع كتابة كل إدراج أو تعليق.