Atwasat

قولا واحدا

صالح الحاراتي الأحد 14 أبريل 2024, 03:56 مساء
صالح الحاراتي

قال لي «رأيه» وهو يحاورني، ثم اتبعه بعبارة «...قولا واحدا»، فقلت له: ليس هناك فى الرأي «قولا واحدا»، ولكن الآراء المختلفة من طبيعة الواقع والحياة، فأنا عندما أستمع لهذه العبارة، التى تتردد كثيرا، ينتابني شعور بالحذر من قائلها، لأنه -فى تقديري- قد يعني بها «أن من يقول رأيا آخر غير رأيه في أي مسألة يعتبره على خطأ، بل ربما اعتبره على ضلال»، لذا يساورني الحذر، لأن قناعتي تذهب إلى أن الكثير من المسائل والآراء يسوغ فيها الاختلاف، ومن الصعب القبول بـ«...قولا واحدا»، لأن هذا -ببساطة شديدة- إلغاء لرأي واجتهاد غيره، بينما يفترض أن يكتفي (وهو حقه) بالقول إنه يختلف مع غيره، وإنه يعتبر رأيه هو القول الراجح لديه.

يقول بعض الناس إن مقصد عبارة «...قولا واحدا» قد تعني «قولا أو رأيا لشخص ما علم بقائلٍ سواه». لكني أظن أن «قولا واحدا» هذه ليست بذلك المعنى، وليست عبارة عابرة أو «فتوى قانونية»، وإنما هي قول، وحسب سياقه فى أحاديثنا أريد به ادعاء امتلاك الصواب المطلق والقول الفصل، والسيطرة على عقول الناس برأي واحد، ونمط تفكير إقصائي أحادي الرؤية، أي هي طريقة تفكير للبعض تتحكم في سائر ممارساتهم، لتصير ثقافتهم «ثقافة القول الواحد»، ويصبح صاحبها في نظر نفسه صاحب الحق المطلق في كل صغيرة وكبيرة، أي أنها انغماس فى نظرية احتكار الحقيقة، وازدراء كل مخالف، واحتقار رأيه، وإن لم يصرح بذلك، فهو مالك الصواب والحقيقة المطلقة، وصاحب الإجابة النهائية لأي سؤال!

وما ذلك إلا نفي لجهد ورأي المخالف بكل أريحية، ليصبح منهجا نراه للأسف في الذين لسانهم ينطق بالحل النهائي والقول الفصل، وما إلى ذلك من العبارات الإقصائية من أصحاب التفكير الثنائي الذي يعطي خيارين فقط، أي تفكير «الأبيض والأسود» أو «كل شيء أو لا شيء»، بحيث تكون الأمور في الحياة إما «هذا» أو «ذلك»، ولا شيء بينهما. إنه منهج أصحاب القبول الشامل أو الرفض القاطع الذين يتبنون مصطلح «الحكم المطلق» على الأفكار والعبارات والكلمات التي تدل على الكلّية.

يفترض فى مجتمع يسعى للسلم الأهلى ألا يكون هناك احتكار للحقيقة، وعدم الاحتكار هذا يقود المجتمع المدني إلى التسامح والتعايش لا إلى التعصب، وإلى الانفتاح لا الوصاية على العقول.

ولو صادفت أحد أدعياء امتلاك الحقيقة المطلقة من طينة «قولا واحدا»، ويحدثك بأنه يريد دولة مدنية، فاعلم -يرعاك الله- أنه كذاب ومدلس.

وفى هذا السياق أيضا تحضرني عبارة «نقطة ومن أول السطر»، أى نضع نقطة لنهاية الجملة أو الفقرة أو ننهي الموضوع بكامله، لنبدأ بعد النقطة جملةً جديدة أو فقرة جديدة أو موضوعًا جديدا، باعتبار ما سبق صوابا مطلقا لا شك فيه، لذا أظنها لا تختلف في مغزاها عن «قولا واحدا» بالمعنى الذى أشرت إليه أعلاه.

المهم عندي فى هذا السياق هو تأكيد أن هناك من يريدنا أن نتخلى عن حريتنا، ونفضل عنها تسليم أنفسنا طواعية للكهنة والطغاة من أصحاب «قولا واحدا» والقول الفصل، فمجتمعنا يعاني نتاج ثقافة استبدادية قريبة العهد، وأخرى موغلة فى التاريخ، ولكن سنحاول مقاومة غسل الدماغ تحت الشعارات الفضفاضة والقول الواحد، وسنحاول مقاومة كل محاوﻻت التلبيس والتدليس، فـ«قولا واحدا» هذه تحمل روح الإكراه والفرض والإجبار واحتكار الحقيقة، و«قولا واحدا» هذه أراها مصادرة لحق الآخر، وحجرا لتعدد الآراء، وادعاء الوصول إلى الحق المطلق، وهو أحد أسباب شقاء الإنسان، خاصة في مجتمعاتنا، حيث النظرة الأحادية هى القانون الحاكم لكل الحياة، سياسية كانت أم فقهية، بينما علينا أن نعترف أننا لا نمتلك الحق المطلق، وأن كل ما لدينا لا يمثل سوى رأى وحقيقة نسبية، ولا إمكانية لأى نمو واستقرار وتطور فى أى مجتمع إلا بتحرير الإنسان من عقال الأحادية الفكرية، وكسر أغلال القيود على حرية الرأي، وتجاوز ما يسوغ لحكم الفرد والرأي الواحد.. كل ذلك من خلال اعتماد فكر متسامح وقائم على الحوار والإيمان بالتعددية، واعتبار الاختلاف أمرا إيجابيا.