Atwasat

منطلقات «الجابري» الفكرية في نقد العقل العربي! (8-8)

سالم الهنداوي الجمعة 05 أبريل 2024, 01:22 صباحا
سالم الهنداوي

ماذا بعد الأثر الفكري الذي تركه لنا "محمد عابد الجابري" وسواه من مفكِّري التنوير، وكان قائماً في سؤال العقل العربي، باحثاً في مفهوم التراث بمرجعياته الدينية والدنيوية وتأصيل الحداثة بتمظهراتها الأوروبية، وصولاً إلى كشف القطيعة المرجعية التي حالت بين مفهومي التراث والحداثة بلبوسات نظرياتها النقدية المعاصرة، الأمر الذي جعل من سؤال العقل العربي مغترباً بتراثه وغريباً عن الحداثة.

في كتابه "أكاديميون ومفكرون عرفتهم" يقول الكاتب العُماني "عبدالله العليان" أن ثمة تناقضات أيديولوجية حادة أربكت فكر النهضة العربية ولا تزال تهيمن على الفكر العربي المعاصر، بل إنها في المرحلة الراهنة تتّجه نحو المزيد من التعقيد والعنف والقطيعة.. ولعلّ في صدور الأعداد الكبيرة من المؤلفات والدراسات والمقالات في الدوريات والصحف العربية تحت عناوين الأصالة والمعاصرة، والشورى والديمقراطية، والدين والعلمنة، والعقل والنقل، والعرب والغرب، دلالة واضحة على تجذّر الطرح الإشكالي واحتدامه، الأمر الذي بات يتطلّب مراجعة نقدية تذهب إلى جذور الإشكال التاريخي، وتؤدي في خاتمة المطاف إلى الخروج من الحلقة المفرغة التي لا تزال تحاصر الفكر العربي".

في هذا السياق الإشكالي أدرج "زكي نجيب محمود" الذي عاش ردحاً من الزمن في الغرب وانبهر بحضارته في المرحلة الأولى من حياته الفكرية، إذ هي حضارة القوة والعلم والإبداع والمغامرة وتحقيق السيادة على الطبيعة، إلّا أنه عاد آخر الأمر تائباً معتذراً، ناقداً آراءه السابقة بقوله: "تمنّيت لأمتي في ما سبق أن تكون قطعة من الغرب، لكنني اليوم أريد لها أن تكون أمتي هي أمتي"!

أما "محمد عابد الجابري" فقد اختار مشروع نقد العقل العربي بغية دراسة النُظم المعرفية في الثقافة العربية الإسلامية، موضحاً أن ما سيهتم به "ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتِجة لهذه الأفكار"، باعتبار ذلك مدخلاً إلى فهم العرب والنظر إلى واقعهم الحضاري والعوائق الإبستمولوجية التي تواجههم وأسباب تخلفهم، عليه دعا الجابري إلى العودة للتراث كجزءٍ من عملية الدفاع عن الذات، ناعتاً العلمانية بأنها "مسألة مزيّفة" يجب أن يُستعاض عنها كشعار، بشعاري العقلانية والديمقراطية.

أثار الجابري بأفكاره ردوداً وانتقادات ونقاشات عند عددٍ كبير من الباحثين والأكاديميين مثل "جورج طرابيشي وفهمي جدعان ومحمد عمارة وطارق البشري" وسواهم، فاتُّهم بالتحريف والتزييف والنظرة التجزيئية، وبعدم إعطاء الأخلاق الدينية المكانة التي تستحقها في تحليلاته.. لكن الجابري في سنواته الأخيرة كان أكثر اقتراباً من الفكر الإسلامي، ولا يمكن مقارنته، في رأي "العليان" بـ"محمد أركون" أو "نصر حامد أبو زيد" أو سواهما ممّن "لهم مشاريعهم الفكرية التي لا تلتقي مع فكر الجابري ونهجه الفكري".. وخاض "فهمي جدعان" في مفهوم "التقدُّم" في مؤلفه "أسُس التقدُّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث"، فرأى أن المفهوم مرتبط بمفهومي التطوُّر والتغيير، الأول هو وليد الفلسفة الداروينية، وهو ذو طابع محايد أخلاقياً ويتّصل بالكائن الحي أو البيولوجي، أما التغيير فينصبُّ على التطوُّر الكوني وهو عارٍ عن كل مضمونٍ أخلاقي.. من هنا وقف "جدعان" موقفاً نقدياً من "الليبرالية" التي هي صيغة جديدة محدّثة من الداروينية التي تقدّس الفردانية وتغلّب القوي وتسحق الضعيف، والتي لا يمكن أن تكون الصيغة الملائمة للعرب في الإصلاح والتقدُّم.. وقد رفض مقولة نقد العقل العربي الجابرية، فالخلل والعطب، في رأيه، ليسا في العقل العربي، بل إن النقد يجب أن يوجّه إلى "الفعل"، فالعقل دوره دور الخادم للغايات المسوغ للرغبات. وهنا يختلف "طه عبد الرحمن" مع جدعان، إذ يرى أن روح الحداثة كمصطلح ليست دائماً من صُنع الغرب، وليست ملكاً لأمّة بعينها، بل هي ملك لكل أمّة متحضّرة.. كما يختلف مع الجابري في مقولته الزاعمة أن "العرب لم يدفنوا بعد أباهم أردشير"، في إشارة إلى أخلاق الطاعة الفارسية. الأمر الذي تنقضه الحركات الثورية التي عرفها العرب في تاريخهم القديم والحديث.

ماذا بعد كُل هذه الخلاصات الفكرية في سؤال ونقد بنيوية العقل العربي التي صاغها مفكِّرون عرب بارزون منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، معتمدين على التراث الفكري العربي سنداً عقلانياً، وعلى الثورات الثقافية للنهضة نهجاً للحداثة، غير أن المفهوم الغربي للحداثة طغى على مفهومها العربي الذي اعتمد التراث العربي نهجها، بل ومصدر إلهامها للثقافتيْن العربية والأوروبية.. و"الجابري" على خلاف معظم مثقفي التنوير جعل آراءه ذات حمولات منهجية متعدّدة اهتمّت بقضايا العصر، من نهضة وتجديد وأصالة ومعاصرة، والعلاقة بين الدين والدولة وتأصيل فلسفة الماضي وتشييد فلسفة عربية معاصرة معتمدة النقد الابستمولوجي كمنهج يفكك من خلاله كل المشابك الأيديولوجية سواء كانت محلية آتية من التراث، أو مستوردة من الغرب، وهي الثنائية التي حاصرت العقل العربي لعقود.. ويرى الباحث المغربي "محمد المأموني" أن المشروع الفكري الذي دشّنه الجابري فتح الباب أمام الباحثين للنهل من نبعه لأجل تعميم الوعي بأهمية الاطلاع على الميكانيزمات المحرِّكة للتاريخ العربي الإسلامي والنظر إلى الواقع الراهن من منظور مختلف.. ومن منطلقاته الفكرية كان الجابري يقصد بـ”العقل العربي” جملة المباديء والقواعد التي تقدّمها الثقافة العربية الإسلامية للمنتمين إليها، كأساس لاكتساب المعرفة، وتفرضها عليهم كنظام معرفي، أي كجملة من المفاهيم والإجراءات التي تعطي للمعرفة في فترة تاريخية مّا بنيتها اللا شعورية.. وفي كشفه لتكوين العقل العربي راهن الجابري على تحليل الأسُس التي تستند عليها عملية تحصيل المعرفة في الثقافة الإسلامية بشكل شمولي، خصوصاً وأنه يطابقها مع بنية العقل العربي، ولا يستخدم العقل بمقصود العقلية كما استعملها المستشرقيون، وإنما كغريزة أنتج مقولاته وأدوات فهمه وتأويله للأحداث والظواهر والمتغيِّرات داخل بيئة وحضارة خاصة.. وعليه فالعقل العربي ليس شيئاً منفرداً ومتميِّزاً أو العكس، وقد حدّده في إطار الثقافة العربية التي ساهمت في تكوينه، وعلى هذا الأساس مارس محمد عابد الجابري عملية النقد متسلِّحاً بترسانة من الأدوات والمناهج الحديثة، وكذا باعتماده على بيداغوجية اختمرت عنده من الممارسة الطويلة في تدريس الفلسفة التي صاحبت سؤال العقل العربي ونقده، وأثرت زمانها ضمن مشروع عربي متكامل أضاء مرحلة "التنوير" للمستقبل قبل أن تنغمس الأنظمة العربية في ظلام عهودها المتتالية بقيادة ساسة العهد المشبوه الذين وأدوا فكرة الإصلاح المجتمعي ليسودوا بقوانين التأمين السياسي الذي جعلهم يحكمون بلا معروف!

بإنجازه الفكري الرصين في التراث والحداثة وسؤال ونقد العقل العربي، يكون الجابري ورفاقه الكِبار، قد أضافوا تراثاً فكرياً جديداً إلى خزائن التراث الفكري العربي، ولمكتبة "الذاكرة العربية" الموجوعة بأسئلة الحاضر تحت جُنح ظلام أنظمة الخواء، سُلطة "الحاكم الرشيد" سليل جهل الحاكمية التي تنمو في غياب أسئلة العقل خارج التراث وخارج الحداثة!