Atwasat

«زمن الآلام»

عبدالله الغرياني الإثنين 29 مايو 2023, 03:24 مساء
عبدالله الغرياني

في زمن الآلام أجد أمامي سؤالا وهو «كيف عايش؟» أو «كيف تمشي أمورك؟»، ذلك السؤال يردده الكثيرون في منتصف المكالمات التي تأتيني من بعض الأصدقاء والرفاق القدامى الذين يتصلون إما للاطمئنان عليّ والحديث معي أو للاستفسار حول بعض الأمور المهمة، وفي العادة لا أجد إجابة لهذا السؤال لأنه إن وجدت فستكون طويلة وقد لا يستوعبها السائل.

العيشة في الغربة صعبة جداً للإنسان الطبيعي الذي لا توجد عوائق أمامه تحديداً صحية أو جسدية فما بالك بالنسبة لي أنا الذي أعاني كثيراً من عدة مشاكل صحية وجسدية حيث تعيق جسدي الإصابة، فالحياة بالنسبة لي صعبة جداً ولا أستطيع لملمة كل متطلباتي الشهرية، لقد مُنعت من العمل لأسباب صحية فقد قام بعرضي مكتب العمل فور حصولي على الإقامة على لجنة صحية تتعبه وقررت إحالتي للتقاعد نظراً للخطورة التي قد أتعرض لها إذا توجهت لأحد الأعمال وفتحوا لي المجال فقط أمام التحصيل العلمي والعمل الحر اجتهدت وبصعوبة ذهنية وأكملت دورة الاندماج وحصلت على شهادة مستوى B1.

كنت طوال الدورة التي تجاوزت سبعة أشهر في صراع مرير بين التركيز مع الفهم والحفظ وبين الآلام التي ترسلها الأعصاب في كل ثانية للدماغ، حالة مرهقة جداً من التعب والصراع النفسي ولكن باجتهاد أتممت الدورة، ومن بعدها فكرت جدياً في خوض رحلة استكمال الدراسة الجامعية ولكن سرعان ما انعدمت الرغبة لدي فعقلي أصابه نوع من الضجيج المتواصل والشعور بالملل المستمر والإرهاق.

ذهبت للاستشاري النفسي وقال لي لا تضع هدفا واحدا بل ضع عدة أهداف في عقلك، فحالتك تريد خيارات واسعة ومتعددة لا تحصر نفسك في هدف واحد قد تتوجه نحوه وتخفق في بدايته أو منتصفه وتصيبك الخيبة التي ستزيد الوضع سوءًا، أصبحت جالساً في البيت وأسافر باستمرار فالمواصلات لدي مجانية طوال العام داخل ألمانيا باستثناء القطارات السريعة أدفع نصف القيمة سافرت لأقصى شمال ألمانيا وجنوبها وشرقها وغربها وأصبح لديّ وقت فراغ كبيرة سخرته لمواكبة الأحداث في ليبيا وبذلت جهدا كبيرا في مناصرة استحقاق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والقضايا الحقوقية والمجتمعية، حتى دخلت لسوق العمل عبر نافذة مقهى فيه تواصل مباشر مع الناس، انسجمت رغم أنه مرهق للغاية فهو يعتمد على الجهد الجسدي ولكني أحببته حتى أصبحت مشرفا ومديرا للمبيعات به داخل إحدى محطات مترو الأنفاق في ولاية برلين.

أقوم بتسلمه وحدي لساعات وأنا أشبه ما أكون بساق واحدة، وأشرف على عمل باقي زملائي، أُعفيت من دفع الضرائب وفق القوانين الألمانية لفئة الاحتياجات الخاصة، فمهما عملت سيبقى المرتب ثابتا دون دفع أي ضريبة بشرط عدم الحصول على مساعدات من الدولة، مكتب العمل خاطبني من جديد وأشار إلى ضرورة عودتي للتقاعد بناءً على حالتي الصحية وتحديثات الأطباء، عدت للتقاعد وتركت العمل وأصبحت متفرغا لنفسي، وازدادت الآلام وصعبت علي الحياة من جديد.

أعادني الأطباء في مستشفى الآلام ببرلين إلى العلاج المكثف، وأجرينا تجارب على أنواع عديدة من الأدوية المسكنة والمهدئة للأعصاب والآلام، وفي كل مراجعة شهرية يقرر الطبيب رفع مستوى جرعة حتى أصل لأقصى جرعة ليقرر تغيير نوع الدواء، وأصبحت المعاناة مستمرة حتى قرر الطبيب إضافة نوع علاج مع الدواء وهذا النوع من العلاجات مستحدث في ألمانيا وهو القنب «الكانبس» ولكني رفضته لرائحته الكريهة التي قد تفهم من قبل محيطي بأنني مدمن مزاجياً.

ولكن قال الطبيب لا توجد لدينا مشكلة سنصرف لك عصارة القنب أي يمكنك أخذ جرعة سائلة منه، وحدث ذلك مع وجبة الدواء الليلية أقوم بأخذ جرعة مع دواء وفعلاً تسهم في النوم بشكل سريع ومريح، لتعود شهية النوم وتغيب الاضطرابات ونوبات الليلية، ولكن عند شروق الشمس والاستيقاظ من النوم تبدأ شرارة الغضب التي تنتهي بعد ساعات من تناولي لجرعة الدواء، إذا خرجت من المنزل مباشرةً أصبحت أبحث عن المشاكل، لذلك أحرص على البقاء في منزلي حتى أستقر وأخرج للشارع للتعامل مع البشر بشكل طبيعي وقضاء اليوم بسعادة حتى أعود لأنهي ما لدي من مشاغل والتزامات في البيت، ألتقي أحياناً مع بعض الأصدقاء، وأذهب لقضاء بعض الوقت في المقهى وأحياناً آخذ وردية أعمل بها وأشرف على البيع من باب الود الذي بيني وبين مدير المقهى فنحن أصدقاء ورفاق ونعتبر شركاء في هذا النجاح الذي يشهده العمل، لا يستوعب الكثيرون هذه الظروف التي أمر بها ولا يعرف رفاقي القدامى حجم الضرر الذي لحق بي وظروفي القاسية التي أمر بها وشبابي الذي خطفه الإرهاب الديني، ومستقبلي الذي أجتهد لإنقاذه، والخيار المرير بين الدواء أو الآلام.

من أيام حدث موقف أحزنني كثيراً من صديق اتصل بي مساءً وأنا تحت تأثير الدواء ولا يمكنني الرد كون النوم أصبح يستدرجني وكرر الاتصال من جديد حتى اضطررت لفصل الإنترنت من الهاتف المحمول، عاود الاتصال بي صباحاً حيث كنت في المنزل والغضب يتطاير أمامي تجنبت الرد عليه خرجت من المنزل إلى المقهى وجدت نفسي أعمل وأتعامل مع الزبائن وفي الأثناء وصلتني منه رسالة يلومني فيها على إهمالي له، أنهيت عملي وعاودت الاتصال به لم يرد علي أيقنت بأنه زعل مني، فتركت له رسالة صوتية شرحت فيها الموقف، سمع الرسالة عاود الاتصال بي ليلاً جاوبته وقلت له يا صديقي أنا الآن تحت تأثير الدواء للنوم دعنا نتحدث لاحقاً. لم يستوعب الأمر وظن بأني أتهرب منه قام بإلغاء الصداقة، وغادر صفحة الأصدقاء.

شعرت بأذى نفسي بسبب تصرفه هذا، وأصبحت أفكر جدياً في أن أنعزل عن البشر بقدر المستطاع، ولكن قناعتي جاوبتني بأنها خطوة غير جيدة، وعليك مصارحة الآخرين وتشرح لهم أنت «كيف عايش» كي يقتنعوا بأنك تعاني من أمراض عصبية مزمنة وطبيعية مثلها مثل باقي الأمراض المزمنة التي تصيب الإنسان بشكل أو بآخر، والذي لديه فهم إنساني سيتخذ من هذا الأمر نقطة من نقاط كيفية الوصول إليك وتفهم ظروفك، وقد أكون غير محتاج لتبرير موقفي ولكن هذا شعبنا الذي يريد معرفة كل شيء ويحرص على فهم ومتابعة الآخرين، والمضحك في الأمر أنه في بعض الأحيان يقول لي أحدهم بعد أن أشرح له ما حدث معي «والله أنا مستغرب كيف عايش» وأبقى أنا نبحر في استغرابه هذا وأقول فعلاً "أنا كيف عايش، وكيف نجيت وشنو إلى صار معايا" ويلخبط عقلي كل الأوراق داخل ذهني، و "معش نفهم كيف عايش ولا ليش عشت".

وفي الختام «كيف عايش؟» أو «كيف تمشى أمورك؟».. «مش حتزيد في المستقبل شيء» ويبقى السؤال الأهم «اللي علشانه حدث كل حرف كتب في هذه المقالة، ليش صار هكي وعشان شنو.!! وفي كل لحظة نحسو بيها بآلامنا أو بآلام غيرنا علينا معرفة أنها كانت في سبيل الحرية فهذا الثمن الباهظ كان لأجلها ويجب الحفاظ عليه، أنا سعيد بنفسي وما قدمته وراضٍ بحجم هذا الضرر، معركتي كانت إنسانية ضد إرهاب اتحدت ضده الإنسانية أجمع ومئات الآلاف فقدوا أرواحهم لأجل محاربته أو كانوا ضحاياه».