Atwasat

الأيام البعيدة في بنغازي..!

سالم الهنداوي الثلاثاء 07 مارس 2023, 01:33 مساء
سالم الهنداوي

.. ليس بمقدورنا أن نعيد تلك الأيام البهيجة في حياتنا، تلك الأيام التي صادقتنا وصادقناها في الزمن الجميل، بل وصدقت معنا وصدقنا معها. كانت لنا بكل ما فيها وبكل ما نريد، من معرفة عابرة على جدران المدينة، ومن معرفة راسخة استقيناها من الكِبار الذين سبقونا في العمر والمعرفة جنباً في الحياة، في الشارع حيث قلب الجار على الجار، وفي المدرسة حيث كاد المعلم أن يكون رسولاً، وفي المكتبة العامة حيث ينتظر الكتاب كما تنتظر المعرفة طالبها المجيد..

تلك المكتبة الوسيعة التي كانت تطل بعبقها على الرصيف العريض بشارع عُمر المختار، نرتادها في كُل حين ببطاقة عضوية حمراء يمتلئ جدولها في كل مرة بعناوين الكتب وتواريخ الاستعارة، وليغمرنا الشوق إلى غرف المزيد من العناوين، فيما كان بعض جيلنا يتردد على مقهى النادي الأهلي بجوار سينما «برنيتشي» يشربون الحليب بالتفاح ويجالسون مصطفى المكي وأحمد بن صويد وعلي بوعود، وبعضنا يسبح في بحر «الشابّي» مفتونين بمهارات مصطفى البدين وحمد سردينة، وبعضنا يبيع الجرائد اليومية تحت ظل الأقواس من مقهى «كَرم» بعمارة التأمين إلى مقهى «العرّودي» بميدان البلدية..

كان شارع عمر المختار حافلاً بشباب بنغازي الستينيات، يعبرونه جيئة وذهاباً ببهجة غامرة، حيث لا فراغ بالمرة في حياتهم، بل كانوا يقتسمون النهار بينهم على الجهات والنواصي قبل حلول المساء، حيث يُسدل الستار على المدينة فتدخل في ظلام الليل على باب سينما الاستقلال وسينما هايتي، أو تحت فوانيس الشارع القديمة حيث التراب الناعم الدافئ مفرشنا لحكاياتنا في المدينة التي تمضي بنا حتى يغلبنا السهاد قبل أن ينعس القمر، فنرى بيوتنا العتيقة تنادينا بضوئها الخافت إلى النوم على وعد الصّباح.

كنت أصحو باكراً قبل صياح الديكة فأهرع رأساً إلى الماء البارد في حنفية الحائط تحت حبل الغسيل وقن الدجاج، وأخرج إلى الشارع مبتهجاً بسطوع الشمس النقية في الصباح، حيث اعتدت وأصدقائي مقابلة هواء البحر في شارع «شهداء آل جعودة» وشرب «السحلب» في قهوة سي بركات مع عمال الميناء الذين يتوافدون من جهة الصابري ويمرون بالمقهى في جماعات يحملون الأكياس المطوية، ولقد اعتدنا رؤية تلك الوجوه المبتسمة رغم العوز.

ومزحاتهم العفوية بكلمات اعتدنا سماعها كثيراً بين الباعة في سوق الجريد والفندق البلدي، حتى لتبدو ألفاظهم معتادة في المدينة بمعانيها. كنا نبتهج لمزاحهم في ضحكات صبيان، ونتمنى أن نكون كباراً مثلهم ونعمل في الميناء.

كان السحلب الساخن لذيذاً برشة القرفة واللوز، وكان الكوب الواحد يملأنا بالدفء والقوة لنمضي في المدينة بعيونٍ تمسح الجدران وأعتاب البيوت وأبواب الدكاكين، وتقرأ الوجوه في الزحام وتحفظها، فتعرف ابن المدينة من الغريب، وتعرف الطيب من الخبيث.. كنا صغاراً لكنّ بنغازي جعلتنا كباراً، وإذا كنا لا نقوى على عمل الكبار، لكن كان بمقدورنا مجاراتهم في الكثير من الأعمال غير الشاقة، مثل بيع المكسرات أمام السينما، أو بيع الكراتين الفارغة في الفندق البلدي، وما قد نجنيه في الملعب البلدي خلال مواسم مدينة الملاهي والسيرك الإيطالي.

كانت حياتنا كرنفالية في منطقة الفندق البلدي وسط لبلاد، في الدأب اليومي لأهلها من سكان سيدي اخريبيش والصابري الذين يتجولون بأقدامهم أو بواسطة الدراجات والحمير، فيما سكان بقية المناطق الأخرى يعتمدون في تنقلاتهم على أتوبيسات «السلّاك» الرابضة في محطتها أمام سينما الاستقلال، أو على العربيات والكاروات التي تجرها الخيول، وكانت محطاتها خلف الفندق البلدي وعند رصيف المستشفى الكبير وأمام معمل شفيق ومدرسة الأميرة.

جاء صيف 1966 قائضاً والنهار طويلاً والليل أطول، ولا بد من العمل بدل الفراغ الذي كنت أمضيه مع الصبيان بين الأندية والشوارع، أو على شط الشابي والكبترانية، أو لعب الكورة في مدرسة «توريللي» والملعب البلدي.. فليست كُل الأعمال شاقة كما عمل الكبار في الميناء.. فالحاج «العاشق» صاحب المقهى القديمة بجوار سينما الاستقلال منحني فرصة العمل سفرجياً في قهوته.

فارتديت المريول الأبيض وحملت السفرة الدائرية في انتظار إشارة الزبائن الذين يتوافدون في الصباح الباكر من أجل القهوة، وبعد الإفطار في مطعم بوعشرين الملاصق للمقهى، تبدأ الطلبات على الشاي والمشروبات الغازية «القازوزة» التي اعتدت فتحها مباشرة أمام الزبون فتصدر صوتاً بموجة غاز نفاثة سرعان ما تتلاشى برغوتها، وأضع الزجاجة الباردة على الطاولة وأمسح في المريول الأبيض أثر البلل في كفي الطريتين.

يوم استلمت عملي «سفرجياً» نصحني الحاج «العاشق» وهو يحرك الأباريق النحاسية الصغيرة على رماد النار ثم يسكبها بخفة في الفناجين، نصحني بألّا أنظر إلى السفرة وأنا أحمل القهوة حتى لا ترتج، وذات مرة دفعني الفضول فاختلست النظر إليها فارتجت فعلاً، لكن الزبون الذي كان عطشاً ودلق من فوره كوب الماء وطلب كوباً آخر على عجل، لم ينتبه إلى سيل البن على سطح الفنجان وبقعته الدائرية في الصحن.. وإلى الآن وأنا أتبع نصيحة الحاج العاشق في حمل فنجان القهوة.

على الرغم من كون شغلة «السفرجي» ليست من الأعمال الشاقة في حياة الرجال، فإنني لم أحتمل الوقوف الطويل والمرور بين الزبائن ومسح الطاولات وجمع منافض السجائر.. فمللت العمل بالقهوة واعتذرت للحاج العاشق الذي ودعني بنصيحة أخيرة ودعوة خير قال فيها: «شوف مصلحتك يا اوليدي وربّي يباركلك..».

كان بيع «الجرائد» متجوّلاً في منطقة الفندق البلدي وشارع بوغولة وسوق الجريد حتى ميدان الحدادة، أكثر متعة من العمل سفرجياً في مكان محدود بين بابيْن وعتبتيْن، لكن المفارقة العجيبة بين العملين أنهما متصلان بالعقل، فالقهوة للمزاج، والجريدة للفهم، القهوة تشربها والجريدة تقرأها..

ويبدو أنني لم أبتعد كثيراً عن مزاج الناس وتنويرهم. والمفارقة العجيبة الأخرى أنهما يلوذان بالتبغ في معظم العادات. فمعظم من كان يشرب القهوة يدخن، ومعظم من كان يقرأ الجرائد يدخن، وأنا كنت أنير لهم طريق التفكير في الحالتين دون قصد، فلم أكن أدخن لأني لم أكن أشرب القهوة، كما لم أكن أقرأ لأدخن.. كانت القراءة عندي متعة تساوي متعة الركض مع الصبيان على طول شاطئ «توريللي»، ومتعة السباحة في بحر الشابي، حيث أستمتع بحرية الجسد والعقل معاً.

طال تجوالي بالجرائد اليومية في شوارع المدينة أحمل الأخبار على كتفي ورأسي وأصيح «جرايد جرايد، الحقيقة الزمان الرقيب» وفي نهاية المشاوير كانت الأخبار تخف عن كاهلي حتى تنتهي مع النسخة الأخيرة على مدخل سوق الظلام، فأعود قبل المغيب ظافراً بالنقود المعدنية، هي مدخراتي للعام الدراسي الجديد.