Atwasat

رحلة البحث عن الطمأنينة (2-2)

عبدالله الغرياني الثلاثاء 31 يناير 2023, 02:49 مساء
عبدالله الغرياني

أقمنا في المدينة المنورة أربعة أيام زرت فيها مقبرة البقيع المحاذية للمسجد النبوي ومقبرة معركة أُحد ومسجد قباء ومعالم أخرى، ومررت لرؤية بعض أحياء المدينة المنورة التي لم أكن أتوقع رؤيتها بهذا الشكل، فكيف تكون بهذه الحالة الباهتة وهي ضمن أراضي المملكة العربية السعودية وجزء من المدينة المنورة، فالكثير من الأحياء شعرت بأنها عشوائية ومنزوعة الجمال العمراني والبناء المنظم والمتطور أوجعتني رؤية هذه المشاهد، والتي أتوقع أنها ستختفي في وجود ملصقات مشاريع التطوير والبناء الخاصة برؤية 2030.

تقول بأن المملكة تتجه لتغيير جذري وشامل ينهي كل التراكمات التي جعلت هذه المناطق والأحياء بهذا الشكل، ودعت المسجد النبوي من خلال زيارة له لكامل أفراد المجموعة التي أتت معي من ألمانيا ضمن رحلة شركة «بدر الإسلام» زرنا من جديد الروضة الشريفة وجلست بجوار عمود السرير، وألقينا جميعاً سلام الوداع على الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم، أحرمنا في اليوم التالي وانطلقنا باتجاه مكة المكرمة مع توقفنا بالميقات لصلاة ركعتين، وصلنا إلي مكة المكرمة بعد رحلة استغرقت خمس ساعات وكان لدي شغف كبير لرؤية المسجد الحرام والكعبة المشرفة.

وصلنا لمقر إقامتنا بالمسلفة على بعد أمتار من حرم المسجد الحرام، مكثنا ساعة وانطلقنا جميعا في ركب واحد نحو الحرم، مكبرين لله وحده راغبين في لطفه وعفوه بنا، حتي عبرنا النفق وبرج الساعة ليظهر أمامنا المسجد ومآذنه ليزداد بداخلي الشوق لرؤية الكعبة المشرفة، وفور دخولنا أنزلت رأسي حتي وصلت لصحن الطواف ورفعته لأشاهد الكعبة المشرفة لأول مرة في حياتي.

قبلة المسلمين وأول بيت وضع للناس كما نعتقد نحن المسلمين وفورا قلت «حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل» في الأيادي الآثمة التي غدرت بي وأنا في ريعان الشباب وفي من دمر الحياة في بلادي، ودعوت بدعوات لي ولكل الإنسانية بالفرج ولمن أوصاني وتذكرته في هذا الموقف العظيم عسى أنها تكون ساعة استجابة، الشعور كان إيمانيا وعاطفيا جميلا جدا صعب توصيفه، فهو شعور المؤمن الذي رمى نفسه بين يدي ربه وسلم له حاله وماضيه بذنوبه وخطاياه، طالبين منه عهدا جديدا مليىئا بالفرح والسعادة.

تعمدت أن أطوف بالصحن بالأسفل وأن أسير على العكاكيز وبرفقتي مساعد مصري الجنسية مقيم بمكة ومساعد لمشرف المجموعة طاف بي وأوصلني لأقف أمام جدار الكعبة وعاد بي، وطوال طواف وجدت جميع البشر بجواري متوجهين ورافعين أياديهم لربهم، لا للطائفة ولا للمذهب والعقيدة، الجميع رجالا ونساء يسيرون في الصحن محاذين لبعضهم، نزعوا ولاءهم للمشائخ والحكام وكل شيء جعلهم يتعصبون ويعادون بسببه بعضهم.

الجميع في لحظات تجلٍ والدعاء لله، وهذا هو جوهر الدين في اعتقادي فهو الله وعند الحساب سيقف المؤمنون أمام ربهم وحدهم ويحاسبون عما فعلوا في حياتهم ولن يقف بجهنم أحد في هذا الموقف، انتهينا من الطواف وتوجهنا للسعي بين الصفا والمروة، هنا حدث موقف غير إنساني بالمطلق تمثل في وجود شبان في أياديهم كراسٍ متحركة ويظهر على ملابسهم شعار يؤكد خدمتهم بالمسجد.

يقومون بالعرض على كبار السن والمعوقين خدمتهم والسعي بهم بمقابل مادي مرتفع جدا يقارب مائتي ريال سعودي أي ما يعادل سبعين يورو، رفضت دفع هذه القيمة وأصبحت في نقاش معهم حتي قبل أحدهم السعي بي بمبلغ أقل بكثير من الأول، سألت نفسي ماذا إذا لم أجلب المال معي كيف سيكون الموقف.

فلماذا هذا المشهد داخل أقدس مكان في الأرض حسب اعتقادنا، عموما انتهيت من السعي وأتي وقت الحلاقة وفور خروجي من المسجد وجدت مجموعة تعرض على المعتمرين الحلاقة ذهبت مع أحدهم كان باكستاني الجنسية إلى محل الحلاقة، وفور انتهاء العامل من حلاقتي رفض بتوصية من الذي أوصلني أخذ المال مني، عدت إلى الفندق وتركت باقي المجموعة في السعي كونهم يسيرون على أقدامهم ويستغرقون وقتا حتي ينتهوا من السعي، عدت للفندق تناولت الإفطار وذهبت للغرفة وخلدت للنوم لتحل عليا أزمة صحية وارتفاع شديد لحرارة جعلتني طريح الفراش يومين متواصلين.

من ثم أصبحت أستعيد عافيتي تدريجيا وأصبحت أتجول في مكة مع ترددي المتواصل على المسجد الحرام للصلاة، الأجواء كانت في غاية الروعة والهدوء والسكينة وشعرت بأني تحصلت على جزء من الطمأنينة التي كنت أبحث عنها، فالجميع في خارج وداخل المسجد مبتسم في نظام ونظافة تتم على مدار الساعة مع خدمات متعددة توفرها إدارة الحرم، واكتشفت في الأيام التالية أنه يمكن للمعوقين استئجار عربة كهربائية يعتمرون بها، وهذا الأمر لم يظهر لي عندما انتهيت من الطواف أول مرة.

وأعتقد بأن السلطات السعودية تتحمل مسؤولية كبيرة في إدارة وتنظيم هذه الأماكن المقدسة، الأمر ليس سهلا ومتعب للغاية، ويطل عليا من الفندق برج الساعة الذي يعتبر وقف الملك عبد العزيز للحرم، ومن خلف البرج ظهرت لي مشاهد مماثلة للتي رأيتها في المدينة المنورة، منازل باهته وقديمة وفنادق عشوائية في كل مكان بعضها سوف يزال والأخرى مهجورة في انتظار إزالتها.

تجولت كثيرا في مكة وذهبت لأمتار بعيدة عن الفندق والحرم حتي منطقة العزيزية، فالحياة والمشهد يتأثر به الإنسان.. عدم انضباط في الأسواق والباعة الأجانب يستغلون المعتمرين، وانعدام للبنية التحتية في طرقات، وفي كل الأماكن التي وجدتها متدهورة أجد صورا وشعارات توضح بأنها ستكون من الماضي من خلال رؤية 2030. هنا فقط أستبشر خيرا وأتفاءل وأقول في نفسي إن هذا الوضع لابد من أنه ناتج عن تراكمات طويلة وأتت هذه الرؤية لتغييره والانطلاق نحو واقع وحياة مختلفين.

الطمأنينة شعور فقدته كثيرا في ترحالي الطويل بين العواصم العربية والأوروبية التي مكثت بها لأجل العلاج أو للزيارات العادية، لقد هربت مرارا من الصدمات ونجوت بنفسي من تبعاتها من خلال القوة التي يمتلكها قلبي، ولكن في بعض الصدمات كان صعبا عليّ تجاوزها، تحديدا الخذلان والطعن المتواصل الذي قد يكون من عدة اتجاهات، هنا يختل توازني وأسقط وأفقد القدرة على الوقوف من جديد.

وأصبحت رهين العزلة وردة الفعل القاسية تجاه أبسط المواقف التي أتعرض لها، وأصبح يرحل التركيز مني وينزل الحزن والبؤس بداخلي، حتي وجدت نفسي أقف أمام رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وداخل الحرم المكي المقدس، وأعلم أني لست ذاهبا إلى هناك لأعود بحلول نهائية وبطمأنينة مطلقة.

ولكنها رحلة لرؤية البدايات والبحث عن الطمأنينة الإلهية التي لها ركنها الخاص في القلب، فأن يبقي ركن في القلب مطمئنا ستعبر صدامات باقي الأركان طفيفة وعابرة.

الاستنتاج الذي سجلته بأن الإسلام أكبر من الطائفية والمذهبية والتعصب والكراهية وبريء من الإرهاب والتطرف الذي أضر بنا، وبالإنسانية أجمع، إسلامنا من الله وإلى الله خط بين العبد وربه لا يدخل فيه أحد : البحث عن الطمأنينة.