Atwasat

علاقتي بالقاهرة ومدبولي وما بينهما!.. (1-2)

سالم الهنداوي الإثنين 23 يناير 2023, 02:05 مساء
سالم الهنداوي

عرفنا الورّاق العريق «محمد مدبولي» مبكرا، ففي نهاية الستينيّات من القرن الماضي ارتبط اسمه في بنغازي بروايات مصر القديمة التي كان يفترشها الباعة تحت أقواس «الفندق البلدي». تلك الأقواس التي كادت تتحوَّل إلى سوق للمعرفة مثل سوق «الأزبكية» في القاهرة، لو أمد الله بعمر ذلك المناخ الثقافي الذي كان مزدهرا في بنغازي، وأنتج في تلك الفترة الصحافة المقروءة والكتاب المقروء، والكاتب المقروء، مثلما أنتج القارئ الحقيقي المانع المنيع، والمثقف النبراس المضيء في ضمير الأمة والانتماء لجلال الوطن. لقد كان الفن والأدب في ذلك الوقت يعيشان بيننا وفينا وأينما حللنا في مشاويرنا اليومية، فبين جرائد الصباح اليومية، كانت مسارح الليل وسينما الليل ومقاهي الليل، وكانت الصالونات الأدبية والأغاني القديمة والأفلام القديمة. وأذكر أن الحاج مدبولي كان من بين أهم الأسماء المصرية التي حضرت في ذاكرتنا الثقافية التي كان الكتاب عنوانها الأبرز، وهو الكتاب الذي ترجم للسينما أهم روائع نجيب محفوظ.

كنا في طفولتنا الثقافية عندما نستعير الكتب من «المركز الثقافي المصري» بشارع الاستقلال، ونقرأ «اللص والكلاب» مثلاً لنجيب محفوظ، سرعان ما نذهب إليه لنراه في السينما قصة ماثلة تسحرنا بتفاصيلها وبرائحتها التي تشبه رائحة الكتاب في طبعته القديمة. إنها إحدى الحكايات الرمادية التي شكلت صورة مصر في مخيلتنا آنذاك. فمن خلال المشهد البسيط الذي كان يأخذنا لشوارع القاهرة الخالية من الزحام، ولمعان ذلك المشهد «الأبيض والأسود» في الأفلام، كان مدبولي في ميدان «سليمان باشا» ينشر تاريخ مصر القديمة بالعناوين التي برزت في مرحلة التنوير، وتشكّلت مع الثقافة والسياسة وحقوق المجتمع المدني. وهي المرحلة التي أنتجت تيار الوعي القومي في عهد عبدالناصر.

ولم يكن مدبولي مكرَّسا لنشر تلك الثقافة القومية في أوج ظهورها، بل كان في جوهر مسألة الحوار النقدي معها، فكان ينشر للفكر السائد ومعارفه، فنشر لثقافة الاختلاف التي قادها ماركسيون ووجوديون وإخوان وعلمانيون. فكان هذا التعدُّد المعرفي من اهتمامات الناشر الذي سوَّق المعرفة في الصحافة اليومية، بأطيافها المختلفة، وصار لا يمكنه، حين أصبح «ناشرا» بوعيه الجماهيري سوى أن يكون منحازا لاهتمامات القارئ الذي كان يلتقيه على الناصية ويبيعه الخبر بفلس على الناصية الأخرى. وهذا الانتماء للشارع العربي كان من أهم ميزات <<الحاج محمد مدبولي» وانحيازه للثقافة الجماهيرية التي كانت تنهل من وعي المثقفين وانشغالهم بالقضايا الفكرية وأزماتها. فكان قدره أن يكون في فرن الصحافة وعمره 6 سنوات، يبيع أخبارها الطازجة في منطقة «الدقي» و«داير الناحية» غرب القاهرة، ومن ثم تصدَّر أهم الميادين وأغناها بالسابلة والسائلة وبالمثقفين.

لم يكن انتقاله إلى ميدان «طلعت حرب» في قلب القاهرة إلاَّ رغبة في المزيد من الاحتكاك بالناس وهمومهم، يبيعهم الخبر كما يبيعهم الخبز، طازجا في المدينة، وعلى مسمع من المثقفين ذوات الناس وهمومهم، الذين كانوا يعبرون «طلعت حرب» كل مساء باتجاه مقهى «ريش» و«البستان» يتسامرون عند نبض قلب المحروسة وينسجون الأفكار في محراب ضمير الأمة، فعقد مدبولي على هذا الهامش الضروري صداقاته العميقة مع معظم كتاب وأدباء مصر ومن على ناصية طلعت حرب تحديدا، فكانت الثقافة هي هاجس الناشر الصغير الذي ورث عن أبيه تسويق المعرفة وهو في سن السادسة، وبنى مجده الكبير بالتنوع في نشر ثقافة الاختلاف عبر كل تلك المرحل الفكرية من حياة مصر العروبة، وكان شاهدها بامتياز.

لقد كبر حنيني مع الزمن في أن ألتقي «مدبولي» وأرى الرجل الذي بنى ما تعجز عنه مؤسسات الدول العربية قاطبة، وكان أن جمعني به في نهاية الثمانينيات صديقي الروائي «يوسف القعيد» فصار منذ ذلك الحين وجه مصر الذي لابدّ أن أراه وأطمئن عليه وأستمتع بحكاياته عن المحروسة وعمرها المديد رغم الشدائد والحرائق والعواصف التي عبرت نوافذ القصرين خلال مختلف العهود والمتناقضات، منذ عهد الملك فاروق، مرورا بعهد عبد الناصر وأنور السادات.
واللافت في مظاهرات واعتصامات المثقفين المصريين من الأحداث والقضايا المحلية والعربية أنها كانت إما تنطلق من أمام مكتبة مدبولي أو تنتهي إليها، حتى إن ناصية المكتبة صارت منصّة للاحتجاج الثقافي، فتارة تكون لأحمد فؤاد نجم يلقي منها بيانات أشعاره، وتارة تكون لفناني مصر يلقون منها بياناتهم من حادثة تدنيس الأقصى ومن غزو العراق. وهي ذاتها المنصّة التاريخية التي هتف منها قديما الشاعر «نجيب سرور» ضد الجوع، وكانت في وجع أمل دنقل وفي رؤى عفيفي مطر من بعده. وكأن مكتبة مدبولي في حاضرة الزمن وتناقضاته قد أرادت أن تستنطق محتواها الفكري من معارف وكنوز طال صمتها في ذلك الميدان.
كانت تستوقفني هذه المعاني والتباساتها التاريخية في حياة الحاج محمد مدبولي، فكان يغريني بمعرفة المزيد عن روُّاده من المثقفين والسياسيين العرب والأجانب الذين التقوا به باعتباره قيمة ثقافية تاريخية مصرية حقيقية عاصرت أربعة عهود سياسية، من فاروق إلى عبد الناصر إلى السادات إلى حسني مبارك. ولعله يحضرني هنا مدى تأثير مدبولي في ضمير المثقف العربي وقدرته على صُنع الأحداث الثقافية، خاصة في حياة أدباء كبار مثل الشاعر نزار قباني الذي منع الرئيس عبد الناصر كتبه من دخول مصر عام 1967 بسبب قصيدة «هوامش على دفتر النكسة»، ولا يعرف مدبولي حينها أن عبد الناصر سيعيش إلى الأبد ولا نزار قباني سيعيش إلى الأبد، لكن الشعر بينهما وقوة الثقافة وقدرتها على التأثير في الناس كانا سيبقيان في التاريخ ما بقيت النكسة وما بقيت القصيدة.