Atwasat

حتحات علي ما فات.. رؤية متقدمة للتحرر من قيد التاريخ (1- 3)

صالح أبو الخير الخميس 07 يناير 2021, 12:44 صباحا
صالح أبو الخير

في تاريخ أي بلد هناك لحظات فارقة حددت طبيعة المرحلة التاريخية، ثمة خطاب أو كلمة يشرع لها التاريخ أبوابه ويحفظ لها تأثيرها وفاعليتها مهما تراكم الزمن، بسبب ما أدته من نتائج لا تنسى، ولكونها كانت كأنها قيلت في زمانٍ متقدمٍ عن زمان تحققها، فهمها الناس ولكن... بعد حين.

عندما زارت لجنة التحقيق الرباعية في عام 1948 لاستطلاع آراء الليبيين حول تقرير المصير، كتبت في تقريرها: انتشرت حوادث القتل والانتقام في كل المناطق الليبية، وأن حالة الاضطراب التي تحدث في مناطق البلاد لم تكبحها إجراءات الإدارات العسكرية ولا قوى الأمن المحلية.

لقد كان من الطبيعي أن تحدث هذه الحوادث الانتقامية بسبب التركة الاستعمارية المؤلمة على المجتمع الليبي، حين انقسم المجتمع بين متواطئ ومقاوم، وما قام به المستعمرون الطليان من جرائم وفظائع، يساعدهم فيها ثلة من الخونة والمتواطئين. لقد كانت روح الانتقام والثأر هي السائدة .

لقد كانت ولازالت شخصية الفرد الليبي تعتمد علي التراث الشفوي زادا ثقافيا تتزود منه، وهي شخصية متعلقة بالتاريخ ومبتلاة به، وهذا عكس استمرار الصراعات القبلية والمناطقية في هذا المجتمع، لأن التاريخ وذكرياته المؤلمة كانت هي المحرك لهذه الصراعات، وهو، بحق، استخدام خطير للتاريخ دون وعي، ولهذا فقد أدت الذاكرة دورا سلبيا في أغلب مراحل التاريخ الليبي، فلم يكن مستغرباً أن تتعدد ردود فعل المجتمع الليبي تجاه الغزو الإيطالي للبلاد، ولم يكن مستغربا أيضا الاختلافات الكبيرة التي رافقت ولادة دولة الاستقلال فيما بعد، لقد ساهمت هذه الذاكرة في إذكاء الصراع وإشعال الاقتتال، وخاصة في الفترات الحرجة من تاريخ ليبيا، مثلما حدث عقب خروج الاستعمار الإيطالي من البلاد في أربعينيات القرن العشرين. وما أشار إليه تقرير لجنة التحقيق الرباعية سالف الذكر من أحداث .

لقد كانت البلاد بمناطقها الثلاث تعيش تحت حكم أجنبي ولم تكن تملك مؤسسات رسمية علمية أو ثقافية يمكن من خلالها طرح مشروع وطني يحد من سطوة هذه الذاكرة الموقوتة، كانت ليبيا مجرد جغرافيا قاحلة طبيعيا وفكريا، لا سلطة ولا قانون ولا حتي عرف اجتماعي راسخ يمكنه أن ينظم فوضى ما بعد المحنة الاستعمارية، كانت تلك اللحظة فرصة لإنتاج: (ذاكرة وطنية واعية) ليس بقوة الترهيب المكشوف أو بقوة القانون، لكن بالوعي بقيمة النسيان وأهميته للمصلحة الوطنية، في وقت كان الليبيون فيه بحاجة إلى التكاتف والوحدة ونسيان الماضي، والالتفاف حول مشروع وطني واحد ينقذ الوطن .

لقد تفطن إدريس السنوسي إلى أن الإقدام على فتح الذاكرة الجماعية الملطخة بالدماء والتضحيات، مجازفة غير محسوبة العواقب، واختار أن يقدّم قيمة التعايش والتوافق على قيمة الحقيقة التاريخية، وعى إدريس السنوسي أن التذكر قد يكون فعلا طبيعيا بعد كل تجربة نضالية، لكنه لن يعيد ما أهدر من دماء، بل سيتسبب في إهدار المزيد، لأن إطلاق يد الانتقام والبطش ضد من تواطؤوا مع المستعمر ستطال عددا كبيرا من أبناء الشعب، وتحقيق السلام يعني نسيان كل هذا، وتحقيق المصالحة يتطلب أن تكون الذاكرة ناقصة ومحدودة، وشطب الصفحات السوداء منها، ومن هنا أطلق شعاره السياسي الشهير: حتحات على ما فات .

حتحات علي مافات: لم تكن مجرد مثل قيل في مناسبة محددة لوقت محدد، لقد كانت شعارا سياسيا واعيا بأهمية اللحظة التاريخية التي تتطلب نسيان الماضي وجراحاته والالتفاف حول القضية الوطنية.

حتحات علي ما فات: كانت رؤية متقدمة لإزالة الموروث الذهني والتحذير من إعادة إنتاجه، استشعر إدريس السنوسي أن الوعي المثالي للتاريخ يكمن في ترتيب الماضي بما يعيد الثقة للمجتمع في تاريخه ومشتركاته، لتصبح الذاكرة أشبه بتنظيم النسيان، وليست قطعا للجسور بين الماضي والحاضر.

حتحات على مافات: كان اجتهادا سياسيا للنسيان ضمن صيرورة تشكل الأمة، وكان ميثاق الحرابي الذي حرر في درنة بتوجيه من إدريس السنوسي مثالا حقيقيا على تقديم قيم التعايش والتسامح، هذا الميثاق الذي رسخ أولى أسس التعايش للدولة الجديدة .

وكان من نتائج هذا النهج: أن التحق الكثير من القيادات القديمة التي تعاملت مع الاستعمار إلى العمل الوطني نحو تحقيق الاستقلال، وكان لهم دور مهم ومؤثر في تحقيقه، بما كانوا يملكونه من خبرات سياسية وإدارية وتأثير اجتماعي في مناطقهم، وأيضا سادت حالة استثنائية من الأمن والاستقرار في المناطق الليبية، وخاصة برقة، التي كان تأثير الأمير إدريس عليها كبيرا، وتوقفت أعمال الانتقام والثأر، وهذا ما أثبتته الوثائق التاريخية مثل تقارير المندوب السامي للأمم المتحدة إدريان بيلت وكذلك وثائق الإدارات العسكرية الأجنبية.

أكتب هذا وأنا أعيش عصر إيقاظ الذاكرة واستدعائها بكل ما فيها من فظائع وشرور وخيانات، أعيش كغيري من بني وطني عصر استخدام الذاكرة سلاحا من أسلحة الغلبة والقهر وتغليظ القلوب، ويتم هذا الاستدعاء ضمن آلة ضخمة من الوسائل الإعلامية وقنوات التواصل، وفي عصر الموجة الحضارية الرابعة، عصر التواصل السهل والتقارب والبحث عن المشتركات، وبدل أن نستثمر أدوات هذا العصر في بناء مستقبلنا برؤية تناسب روح العصر وهويته، نواصل ممارسة استدعاء الذي: فات ونمسح عنه كل حتحات قد يغيبه ويقينا شروره.