Atwasat

الآخر الحاضر الغائب: قراءة في حضور الآخر في الثقافة الليبية

صالح أبو الخير الأربعاء 03 يونيو 2020, 06:26 صباحا
صالح أبو الخير

أُنشئ: الثلاثاء 02 يونيو 2020 13:54
عُدِل: الثلاثاء 02 يونيو 2020 23:59
الفئة: رأي

مزود الخدمة: EasyNews
بواسطة: بشير زعبية

الكلمات: 846

(إن الاختلاف هو الأصل في يقظة الوعي وتجدد الفكر والتطور... إن الوعي بالذات يمر بالضرورة عبر الغير، وإن الآخر حاضر في الذات بقدر ما هو غائب) د.علي حرب

حضور الآخر في ذواتنا حاضر وغائب: حاضر من حيث التوجس الدائم.. غائبٌ من حيث الأثر.. إن العلاقة بالآخر، كانت سلوكاً مؤطرا من سلوكيات الشخصية الليبية، لقد كان الليبيون قادرين على تسمية كل وجهٍ غريبٍ يلتقون به، وكانوا بدورهم معروفين ويسهل التعرف عليهم، كانت شبكة من المصاهرات وأواصر القربي والصداقات والخصومات تطوق القرى والقبائل، ولهذا لم يكن هناك ما يدفع الليبي إلى الهجرة ومعرفة الآخر إلا سطوة الحرب والسلطة، لم يكن الليبي بحاجة للأموال الكبيرة ليدفع الضرائب لأن الإفلات منها أسهل دفعه.. ولم يكن في حاجة للزواج من نساءٍ لسن من بنات العم او الخال، والحال أن البقاء في مضارب القبيلة مع أولئك الذين يحبهم أو يحتملهم أو حتى متضرر منهم لكنه يعرفهم، على الأقل كان القاعدة!

يقول سعيد المحروق: إن الأجنبي في ليبيا معناه خيبة، لكنها خيبة مؤقتة إذ سرعان ما ينهار هو الآخر تحت الضربات وفي بعض الفترات بل في جميع فترات تاريخ ليبيا كان وجود الأجنبي معناه تكريس فكرة الوحدة وتذكير بها سواء كان في وحدة المقاومة والثورة أو في وحدة التأثير والتأثر فهو غالباً عامل إيجابي.

و يقول أرنولد توينبي: إن الثقافات عندما تلتقي فإن العناصر الصلبة كالأدوات والآلات والتكنولوجيا تكون الأسرع والأيسر انتقالاً.. أما العناصر اللامادية كالقيم والعقائد الروحية والثقافات وأساليب الحياة فإنها تكون الأكثر مقاومة، هذا القول يدفعنا إلى التمعن في عقلية هذا الليبي التقليدية: المتخوفة دوما من الآخر لأنه يشكل تهديداً على هويتها وتقاليدها، هذا الآخر لم يكن الأجنبي الأوروبي أو الأفريقي فقط، لقد كان حتي الليبي المديني غريباً وأجنبياً في الوسط القبلي، وبالمثل كان أفراد القبائل غرباء وأجانب عندما يقتحمون مجتمع المدينة!

لقد كانت الانقسامات الطبيعية والثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية تتراكم الواحدة فوق الأخرى بما يحفز عدم الفهم والعداوة والشك ثم النزاع وحتى الحرب الأهلية، لقد كانت الكراهية أو الرغبة في إيذاء الآخر هي لازمة التمايز لتأكيد هوية المرء والرغبة القوية في الاستقلال وتصريف الأمور دون تدخل.

الثقافة الشعبية ترسم رأسمالاً رمزياً يمكن استغلاله من منظور انتروبولوجي في إجلاء تمثلات الجماعات حول نفسها وحول غيرها، حيث أنتجت كل مجموعة خطاباً تسعى من خلاله إلى تحقير الآخر بتصغيره من خلال انتمائه الثقافي أو العرقي أو الجهوي أو الديني.. وتتمثل الوظيفة الاجتماعية لهذا الخطاب في شرعنة الهيمنة الرمزية على الآخر بعدم الاعتراف باختلافهم.

البعض يرد هذه العلاقة المعقدة بين بيئات المجتمع الواحد إلى الاختلاف بين الثقافة المدينية والثقافة القروية، حيث تتميز الأولى بالنزعة الفردانية للأشخاص وبالعنف الذي يطبع العلائق الاجتماعية في المقابل كانت الثقافة القروية تتسم بقيمة التضامن بين أفراد العشيرة والاحترام المتبادل وإكرام الغريب وهكذا فإن الانتقال من فضاء إلى آخر يعني الانتقال من ثقافة إلى أخرى ومن منظومة قيم إلى أخرى، وهذا وحده كفيل بأن ينتج التنوع الاجتماعي الإيجابي .

يقول أستاذ الانثروبولوجيا بجامعة بنسلفانيا لويس دوبريه في دراسة أجراها على الجماعات البشرية الليبية: كان العرب ينظرون إلى البربر بازدراء مثل ذلك الذي ينظرون به إلى اليهود العرب، والبدو منهم خصوصاً يعتبرون البربر مخلوقات أدنى مرتبة منهم، العربي يدعو البربري بالنفوسي أو الجبالي وهي صفة تبدو عادية لكن العرب ينطقونها باستياء لا لبس فيه، الجبالي تعني متسلق الجبال ولكن العرب يستخدمونها بطريقة مهينة، في المقابل ينادي البربر العرب بالأعراب والبدو وهي صفة لا تخلو من استصغار وتحقير، لقد كانت هذه العلاقة سبباً من أسباب الحرب الأهلية الليبية 1930ـ1936 بين العرب والأمازيغ في جبل نفوسة بسبب المستعمر الذي استغل الاختلاف العرقي والديني بين الفريقين، والتي كتب عنها المؤرخ الليبي الطاهر الزاوي و أسماها: حرب الزنتانية والإباضية، إن النزوع إلى استصغار الآخر من خلال وسمه بنعوت قدحية لا تقتصر على الثقافة الشعبية بل يطال ثقافة النخبة بدرجة كبيرة، ولهذا فقد كانت العلاقة بالآخر منتجاً مؤثراً للنزاع والتناحر كما هي منتجٌ للتنوع الإيجابي.

ولهذا يجب علينا أن نعيد بناء حضور الآخر في ثقافتنا، لأن هذا الآخر هو جزء من ذواتنا، كما علينا أن نفهم أن الحدود بيننا تشكلت تاريخيا وجغرافيا بفعل عوامل خارجية، ولكن الحدود بين الذات والآخر (الشريك) تتشكل ذاتياً بفعل السياسة والإعلام، وتتلون بالعواطف، وهي قابلة للتمدد والانكماش، وهذا بلا شك يدفعنا للبحث عن مساحة لفهم هذا الآخر، وتقدير مساحة الاختلاف معه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حجم الاختلاف معه قد لا يكون عاملا سلبياً بقدر ما هو إيجابي.

ولأن تشكيل صورة الآخر في كل أبعادها، تمر عبر الذات المكونة لهذه الصورة، وفقا لما تحتويه هذه الذات من أفكار وسياسات وخبرات، فيجب علينا أن نُعلي من شأن الأفكار والسياسات التي تمكننا من فهم هذا الآخر (الشريك) وتقربنا منه، علينا أن نفهم أن استخدام مفهوم الذات يستدعي منا تلقائياً حضور الآخر، فصورتنا عن ذاتنا لا تكون بمعزل عن صورة الآخر لدينا، وحضوره في ذاتنا له خاصيتان: الأولى: انه ليس عارضاً بمعنى أن حضوره يتسم بالاستمرارية، والثانية: أنه ليس ثابتاُ باستمرار بل تتغير سماته وملامحه بتغير الزمان والمكان، من خلال هاتين السمتين، يمكننا فهم الآخر القريب (الشريك) وأنه لا كينونة لنا إلا بوجوده، وأنه حاضرٌ في الذات بقدر ما هو غائب وأننا يجب أن نراعي ما يطرأ عليه من متغيرات ـ سلباً وإيجاباُ ـ ونتفاعل معها بما يكفل الفهم والاقتراب ومن ثم الوحدة.

الليبيون اليوم، مدعوون إلى إعادة النظر في حضور الآخر في ثقافتهم، وهذا لا يتم إلا بالانفتاح على هذا الآخر والاقتراب منه وفهمه، وأن تكون علاقتهم فيما بينهم كمجتمع متنوع، علاقة قيمية، تحكمها ضوابط أخلاقية، ولما لا: تحكمها أيضا قوانين.