Atwasat

ضوء المعرفة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 29 سبتمبر 2019, 12:34 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

كثير من المسائل تؤخذ على أنها ثوابت وبديهيات، وعند أول مواجهة لها مع الأسئلة والتساؤلات تقع في دوامة الإحراج وتصاب بالدوار، وتصبح عزلاء أمام متطلبات المعرفة ومستجداتها.

من ضمن هذه المسائل، في تاريخنا العربي والإسلامي، علاقة العرب بالكتابة والكِتاب. فهناك إلحاح على أن العرب كانوا، عدا النفر النادر، لا يقرؤون ولا يكتبون. إذ تتحدث بعض الروايات عن أن عدد الذين كانوا يقرؤون ويكتبون من قريش في مكة عند ظهور الإسلام سبعة عشر رجلا. يبدو أن أربعة عشر منهم هم: علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، وخالد بن سعيد بن العاص، والأرقم بن أبي الأرقم، وعامر بن أبي فهيرة، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وحاطب بن عمرو، وجعفر بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن أبي بكر، كانوا من كتاب الوحي في مكة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الحنفاء، في غالبيتهم على الأقل، كانوا يقرؤون ويكتبون يتأكد لدينا أن الرقم سيكون أعلى بكثير. إضافة إلى أن هذه "الإحصائية" لا تشمل مناطق حضرية أخرى مثل الطائف والمدينة ولا تشمل المناطق التي قامت عليها دول المناذرة (الحيرة – العراق) والغساسنة (الشام) التي كانت، باعتبارها دولا، تحتاج إلى وجود كتاب. كما لا تشمل الكهان الوثنيين الذين لا بد وأن عددا منهم، على الأقل، كان يقرأ ويكتب، ولا القساوسة المسيحيين والأحبار اليهود.

لا نعني، مما تقدم، أن معرفة القراءة والكتابة كانت فاشية في المنطقة. فهذه معرفة وفن نخبويان في تلك الأزمنة والأزمنة التي قبلها، حتى لدى حضارات أرقى مثل الهند والصين وفارس واليونان والرومان.

لكن المسلمين يشددون على شبه انعدام المعرفة بالقراءة والكتابة قبل ظهور الإسلام لاتخاذها دليلا على صدق نبوة النبي وإعجازية القرآن من خلال تفسير خاطيء لمصطلحي "الأمي" و "الأميين" باعتبارهما يعنيان انتفاء المعرفة بالقراءة والكتابة، على حين أنهما تعبيران يهوديان منسوبان إلى الأمة والأمم، وليس إلى الأم، ويعنون بهما غير اليهودي والأمم غير اليهودية، أي الأغيار. ونسبة الأمي والأمية إلى عدم المعرفة بالقراءة والكتابة ينسبها صاحب لسان العرب إلى شخص اسمه الزجاج الذي يصفه د. محمد عابد الجابري بأنه متكلم (= عالم كلام = عالم لاهوت) وليس لغويا. وهنا يتكشف لنا البعد "الآيديولوجي" المبيت الذي يتبنى فكرة المعجزة.

أما بالنسبة إلى وجود الكِتاب قبل الإسلام، وإذا ما غضضنا النظر عن نسخ التوراة والإنجيل التي "كانت متداولة لدى المتهودين والمتنصرين من عرب الحواضر"* فإن التاريخ يثبت لنا "أن أوائل المؤلفين في الإسلام كانوا من المخضرمين، ومنهم على سبيل المثال دغفل بن حنظلة، ‘‘نسابة العرب‘‘...والذي اشتهر بكتابه في الأنساب المعروف باسم ‘‘التشجير‘‘ والذي طبع له عام 1302 هـ في استنبول كتاب ‘‘التظافر والتناصر‘‘"*. ومنهم "عبيد بن شربة الجرهمي اليمني، الذي ‘‘أدرك النبي ولم يسمع منه شيئا‘‘، بكتابه ‘‘أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها‘‘"* وأن ابن النديم ذكر له* من كتبه الأخرى "كتاب الملوك وأخبار الماضين" و "كتاب الأمثال".

ويبدو أن المقصود بالقول "أن أوائل المؤلفين في الإسلام كانوا من المخضرمين" تراد منه الإشارة إلى أنه لا يستبعد أنهم كانوا يؤلفون قبل ذلك وضاعت تآليفهم وزال ذكرها من ضمن ما ضاع وزال.

وإذا لم ترقَ هذه الحجج لأن تكون حججا مقنعة بالخصوص، فإنها، في أضعف الأحوال، تلقي قدرا من الشك بشأن هذه الثوابت والمسلمات، بقدر ما تسلطه عليها من ضوء المعرفة.

* جورج طرابيشي، نقد نقد العقل العربي: اشكاليات العقل العربي، دار الساقي بيروت- لبنان، ط4، 2011، ص 50- 51