Atwasat

«رحيل آريس».. كتاب الذاكرة وأسئلة اليوم والأمس

طرابلس - بوابة الوسط الجمعة 13 أكتوبر 2023, 07:43 صباحا
WTV_Frequency

لن تجد البنية التقليدية في رواية «رحيل آريس»، للكاتبة فاطمة الحاجي، قائمة على فهم خلفيات الصراع بين الثابت والمتحرك في الواقع الليبي باعتبارهما وجهين متضادين ـ رياح التغيير ضد قبضة الأيديولوجيا ـ لكنها تبحر عميقا في تمازج ظلالهما، حيث يبحث كل منهما في مناطق ضعف الآخر، وجره إلى مربع الخطيئة. وعلى نحو هزلي موجع، تتلاحم تلك الرؤية في اتجاه أفق سوريالي صادم. موسى الرجل النافذ في دائرة النظام، والشاب عامر الناهض بأحلامه على قدسية اللحظة الفارقة في الخلاص من ربقة سديم الدائرة. غير أن مد الأمنيات يتوقف عند تجليات سؤال البطل (موسى)، عندما أصبح مجندا لـ«داعش»، لجثة شاب لم يتبق من ذكراه إلا خاتم وإصبع: لماذا جئت إلى هنا؟ أمن أجل المال أم من أجل رغبة في الثأر مثلي؟.

يتصاعد الصراع هنا بين الشخوص، معجونا بشحنة التحولات الداخلية. كما ينهض على مأساة الاثنين (موسى وعامر) اللذين جمعتهما الصدفة في سجن بتونس بعد منعطف 2011، ثم يلتقيا في موطنهما عند خط سراب تنظيم الدولة، وعلى أكتافهما أسئلة اليوم والأمس. تلك المتاهة نسجت على أطرافها حكايا غبار سجال ظل معلقا في سماء الأحداث، وبقيت الحاجة إلى تبيان ملامحه ضرورة تفرضها تداعيات التشظي المتناسل في سيرة الشخوص بمنابتها ومآلاتها اللاحقة. لذا كان الإبحار في عوالمها اقتفاء لأثر بصمات الوجع.. تلك التي تتراءى كناموس قدري يسوقه البطل في جملته «أطارد صور أحبتي في كتاب الذاكرة.. تلاحقني العبارة الأخيرة في سفر الهروب».

المنفى النفسي
تحلق شخصية البطل في ثلاثة فضاءات نفسية «ما قبل العاصفة - البحث عن الذات - الدخول إلى المجهول»، تمثل كل منها رغبة ذاتية في الانفكاك من عناصر ضاغطة على جوهر الكينونة، لكنها تصبح رغبة قاتلة في تناقضها بين تلبية نوازعها وإقصاء ما عداها، فهو يرى في زهرة زوجته الثانية فردوس «روحها المسكرة»، إلا أن هذه التلبية الداخلية كانت أشبه باستراحة قصيرة، حيث غرقت الأخيرة في دمائها قتيلة على يد زوجته الأولى. هذه الإزاحة القسرية الخاطفة شكلت بروفة الانتقال إلى فضائه الأخير، حيث محط المرأة السبية أو السر الآسر أو رحلة التيه المغموسة في المنفى النفسي.
في تحولات المنفى النفسي داخل الفضاء الداعشي، يجد موسى انسدادا في الرؤية، لكنه العمى الذي تصور أنه نور مزيف.. مسخ البصيرة الفطرية لمصلحة فكرة الانتقام، حتى أن سؤال التحول ينهض في كل مرة، محاولا استرداد ما تبقى، لكنه ينقاد دائما إلى العدم: «أنا الأستاذ موسى ذو الرتب العالية التجأ إلى هؤلاء، بحثا عن الحماية من بني قومي، وأستخدمهم وسيلة لأخذ ثأري».

- للاطلاع على العدد 412 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

لكن الفضاء المتاهة له أسئلته وعالمه المتخيل في مخيلة أصحابه الذين لجأوا إليه كحالة افتراضية للتطهر، فالزيف كان ماثلا في تواصل مشوه مع الذوات الأخرى عبر حفلات عرس الدم، حيث يتساوى العقل والجنون، وتصبح لحظات الرهبة أكثر اعتيادية، ولا تبدو جثة الجندي إلا جسر السؤال اليتيم عن المجهول، ولا تعكس «الحور العين» كثافة الدوافع والأسباب منها وإليها إلا شحنة القلق الوجودي، وانعكاساته النفسية المختبئة في جبة الأيديولوجيا. كيف تتجلى سحنات تلك الوجوه في ارتباك يولد، وينسف رغبات الخلاص، ويتولى في النهاية السؤال الساخر وصف العبثية على لسان موسى: «هل أبكي الميت أم أبكي البلاد التي يتقاسمها جنود لصوص غرباء؟!».

النصف المزيف
يتدافع صوت الراوي (البطل) متشابكا مع صوت الذاكرة، لينتجا صيغة التحول المؤلم في شخصية «موسى»، وهي وإن كانت في الماضي تقف على النقيض من بورتريه عامر إلا أنها موسومة بشراكة معذبة بضرورات الانتقام، فكلاهما يرفض الواقع، ويصبحان أسرى ردود الأفعال. وبينما يكشف سجنهما معا في تونس فهما كاملا لمسارات المفترض والممكن والنتائج والأسباب، فإن حاجز الرؤيا لكليهما لا يمنح أبعادا أكثر تعطي بديلا آخر عن الصدام عدا أن كل الشخوص غارقة في الوحل، مكلومة بارتدادات منعطف ما بعد 2011، فهل يكفي ما حدث لتصبح مصائرها في قبضة داعش؟ وعلى أي وجهة كان ينبغي لها أن تسير؟.

في الرواية نلحظ صوتين داخليين، وثلاثة أطوار لموسى وعمار، ينتقل الأول من شخصية النافذ ثم المطارد، وأخيرا المجند. يقابله عامر من الشخصية البلوريتارية ثم الثورية، وينتهي كمجند أيضا. تتفجر في ذواتهما أصوات الأسئلة: الأول عن ضرورات ملاحقته أخته الفارة إلى تونس وقتلها، لغسل «العار»، وينتهي في تغريبته إلى «داعش» التي يصلها الثاني بعد قسوة الانتظار، ثم صدمة الخيبة في التغيير «لم يكن هناك من أمل إلا الانضمام إلى قوة أخرى.. انهارت كل أحلامي». الوعي الداخلي ينهض على صنع مفارقة مع الواقع الذي ندعي فهمه وآليات التعاطي معه. صوت الإدراك يمنحنا على الأقل الإحساس بالقصور البشري، أي النزوع إلى فك الارتباط بين الحلم والواقع، فهل يعني ذلك أن الشخوص مستسلمة لواقعها؟.

إن الأصوات الداخلية التي تغذيها الذاكرة تعرفنا بالشرط الإنساني في أحد تصوراته المربكة، أي الوقوف في منتصف المسافة بين الفعل ورد الفعل كجسر إلى متاهة الحياة التي يراها سجان موسى في تونس كمسرح «تعيش كل ليلة دورك الذي هو ليس حقيقتك».

الحضور الغائب
ربما رأينا تهويمات على سطح السرد يبرقها الراوي (البطل) عن المرأة، لكننا لم نلحظ دفقا أنثويا يعبر عن كوامنها الخاصة أو دفائنها النفسية أو تجليات الصوت الذي يفترض أن يكون متحررا من لعنة القصور. لكنه كذلك بفعل وقوعه في قبضة صوت البطل الذي رسم للأنثى معادلة الذهاب والعودة أو الفاعل والمفعول به، إذ لم نر في مخيلتنا زوجات موسى إلا أطيافا عابرة، ولم نتمكن من رصد ملامح شخصية أخته «مبروكة» إلا عبر تهمة الخيانة. كما مرت «ربيعة» كومضة ازدانت بها غرفة نومه الجديدة، متفائلا باسمها، ثم تذوب في جسد السرد كما يذوب الملح في الماء.

- للاطلاع على العدد 412 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

وحدها «حور» السبية، التي تعرف عليها موسى في حياته الداعشية، ربما شكلت رافعة نفسية، رديفا لصوت الراوي، كادت هي الأخرى أن تغيب في دائرة المجهول إلا أن رغبة البطل في ملاحقة نصفه الغائب جعلته في مواجهة كينونة تبحث هي الأخرى عن إجابة لأسئلتها، بعد تمكنها من الهرب، فكما هو جانٍ ومجني عليه، هي الأخرى كذلك، وبقدر ما يقوده الشغف إلى عالمها تمنحه هي الأخرى وعيها بالحياة «نحن نبدد الوقت في الصمت والخضوع، وهذه سمات مملكة الموت».

وتمكنت «حور» في النهاية من امتصاص صوت الراوي لمصلحتها، فكانت رقصتها أمام لوحة إله الحرب «آريس» في المبنى المهجور فصلا من فصول مواجهة الموت، بحثا عن الحرية وصوتها المسروق.

كلمات مفتاحية

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
الكاتب الكندي من أصل مصري إريك شكور يحصد جائزة «أصحاب المكتبات» من فرنسا
الكاتب الكندي من أصل مصري إريك شكور يحصد جائزة «أصحاب المكتبات» ...
كوبولا يسعى بفيلم «ميغالوبوليس» إلى سعفة ذهبية ثالثة
كوبولا يسعى بفيلم «ميغالوبوليس» إلى سعفة ذهبية ثالثة
المصرية إيمان مرسال تحصل على جائزة «جيمس تايت بلاك» للأدب لعام 2024
المصرية إيمان مرسال تحصل على جائزة «جيمس تايت بلاك» للأدب لعام ...
انسحاب ربع الفنانين المشاركين في مهرجان «غريب سكايب» تضامنا مع فلسطين
انسحاب ربع الفنانين المشاركين في مهرجان «غريب سكايب» تضامنا مع ...
سعيد حامد يوثق حرب طرابلس وواشنطن.. وتاريخ الصحافة الليبية
سعيد حامد يوثق حرب طرابلس وواشنطن.. وتاريخ الصحافة الليبية
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم