Atwasat

فرج الترهوني: الالتحاق بـ«مترجمي النخبة» يحتاج حبلا مفتولا من العلاقات والحظ

طرابلس - بوابة الوسط: عبد السلام الفقهي الأربعاء 25 أغسطس 2021, 02:42 مساء
WTV_Frequency

تتحول علاقة المترجم مع النص في نقله من الفضاء الأم لآخر مغاير، إلى ما يشبه صراع عميق ومركب مع اللغة بمفاهيمها وتفاعلاتها الناتجة من محاولات تحقيق أكبر قدر ممكن من المقاربة النفسية والفكرية للعمل، والعبور به عبر جملة من الأسس التي تبني في صياغتها الأخيرة جسرًا من الشراكة مع الكاتب والمترجم والقارئ .

في هذا الحوار تستجلي «بوابة الوسط» التجربة الخاصة للكاتب والمترجم فرج الترهوني، ورؤيته لعلاقة المترجم مع النص وتحدياتها اللغوية بأبعادها الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية.

من قادك لعالم الترجمة، طموح شخصي أم بدافع ظروف معينة؟
الصدفة وحدها قادتني إلى عالم الترجمة، بعد قيامي بترجمة بعض المراجع النوعية في مجال عملي السابق. وبعد تحوّلي إلى الحياة المدنيّة في نهاية الألفية الثانية، ونتيجة لعلاقاتي الوثيقة بالوسط الثقافي والأدبي، تولّد لديّ شغفٌ شديد بالترجمة، بدأته بالقصة القصيرة والمقالة، ونشرت في بعض الدوريات الثقافية في ليبيا وخارجها. ثم كانت البداية التي أطلقت مشروع الترجمة الأدبية العام 2003، مع صدور ترجمتي لرواية الأفريقي الكبير «تشنوا أتشيبي» و«كثبان النمل في السافانا» التي نُشرت ضمن سلسلة إبداعات عالمية في الكويت، وأيقنتُ حينها أن لي حظوظًا متساوية مع آخرين لنشر ترجماتي في ليبيا وخارجها.

والترجمة إبداع أيضًا، فالمترجم يبدع نصًا جديدًا في لغة وثقافة جديدتين وهذه مهمة شاقة، حتى تكاد تكون شبه مستحيلة في بعض الأحيان. وهناك اتفاق على أن الترجمة هي نقل للمعرفة بشتى أشكالها وهي عنصر أساس في تلاقح الثقافات بين بني البشر، وأثبتت أهميتها في مسيرة الإنسانية على مرّ العصور. والترجمة فعل إبداعيّ محدد، فهو يقدم نصًا جديدًا في لغة وثقافة مختلفتين، بشروط متعارفٍ عليها وهي التقيد بالنصّ الأصلي، والشرط الأهم هو أن تكون لغة الهدف صحيحة وجميلة ومشوّقة لا يشعر معها القارئ بالغربة أو تجاهها بالاستهجان. أي أن عملية الترجمة تتعلق بإعادة خلق للنصوص بروح جديدة ولغة جديدة. ولا أشعر بالرضا إلا عندما يكون العمل مقبولًا لي كقارئ.

تعاملت مع الكتاب الإبداعي والتاريخي والورقة البحثية، كيف تصف حركتك داخل الحقول الثلاث من حيث التقيد بالنص وهامش التغيير، وأي منها يشبع طموحك كمترجم؟
كلّ أنواع الترجمة مُهمّة وشائقة، لكنني أظن أن ترجمة الأعمال الإبداعية هي الأكثر إمتاعًا وإشباعًا للذائقة الأدبية، وخلالها يتقمّص المترجم دور صاحب العمل في التعامل مع الحبكة والشخصيات بأسلوبه ولغته، وطبعًا تحدُث الكثير من الصراعات مع النصّ، حول مفهوم الأمانة والتقيّد بشكل وبروح العمل الأصلي، وأنسب الطرق لنقله إلى اللغة المستهدفة. وعمومًا ذائقة المترجم ومدى فهمه للعمل الإبداعي، وتَمكّنه من اللغتين هي ما تحددُ كيفية التعامل مع النصّ.

من يحدد الخط الفاصل بشكل عام بينك وبين النص الأجنبي من حيث القدرة على المعالجة أو محاولة تضمين فكرة ما تخدم النص، وكيف نفهم «الأمانة العلمية» وفق هذه المعادلة؟
هناك قاعدة عامة متعارف عليها، وهي أن المترجم لا يمتلك الحق في تغيير فكرة ومضمون العمل وشكله العام، وإنما يستطيع اختيار الجمل والتعبيرات المناسبة لجعل النصّ رشيقًا ولائقًا ومقبولًا للقارئ في اللغة المستهدفة، فلا يشعر بالغربة؛ بل يتولد لديه الإحساس بأنه إنما كُتب بلغته. أما قضية الأمانة والخيانة فلها صورٌ ومفاهيم متعددة، وهي مثار جدل كان وسيبقى دائمًا بسبب طبيعة فعل الترجمة.

يؤخذ على بعض المترجمين استخدام لغة مقعرة تعاكس أحيانا بساطة اللغة المنقولة منها؟
من الشروط اللازمة لعملية الترجمة امتلاكُ المترجم لحصيلة لغوية جيدة، وضرورة التمتع بحسّ أدبي عالٍ يمكنه من اختيار مفرداته بدقة وعناية، لكن الأهم بالنسبة لي هو تجنب اللغة المقعّرة التي تتسم بالجفاف، وغالبًا ما ينفر منها القارئ العادي. وأثناء العمل تعترضني أحيانًا بعض المصطلحات والمفردات غير المعروفة في لغتنا العربية، وهنا يكون دور المترجم المهم في إيجاد حلول لتذليل تلك الصعوبات للخروج بصيغة مناسبة تخدم المعنى المطلوب.

كيف تجد شكل النقلات مع النص الأفريقي والآسيوي والأوروبي خصوصا والأمر يحتاج إلى تفهم طبيعة الأجواء التي تبلورت فيها هذه النصوص؟
أتيحت لي تجربة مثيرة لترجمة نصوصٍ أدبية لكتّاب مختلفين يمثّلون اتجاهات وثقافات متباينة، فكنت أحاولُ قدر الإمكان الوقوف على طبيعة العمل والبيئة التي يتحرّك فيها، وما يريد المؤلف توصيله للقارئ. كلّ نصّ تعاملت معه له نكهته وطبيعته الخاصة، وعندما أقرّر ترجمة العمل الإبداعي أتعامل معه كأنني صاحب النصّ الأصلي، وأكوّن علاقة حميمة مع الحبكة والشخصيات، وتستمر هذه العلاقة حتى الانتهاء من الترجمة. ولا بُد من التذكير أن إخراج النص من منظومته اللغوية الأصلية ونقله إلى منظومة لغوية مختلفة كثيرًا ثقافيًا ومفاهيميًا، ليس بالأمر الهيّن، ودائما ما رأيتُ أن الكتابة والإبداع عمليّة أسهل بكثير من خوض الترجمة بمعاييرها وشروطها القاسية. وأرى أن النص المترجم هو إعادة خلق للنص الأصلي في لغة جديدة.

هناك الجملة أو المفردة حمالة الأوجه أو تلك التي تمس الثوابت الدينية، أو مضمون سياسي غير مرغوب فيه، وفق أي رؤية تتجه المعالجة؟
في منطقتنا العربية هناك دائمًا التابوهات الثلاثة أي الجنس، والدين، والسياسة التي تتقاطع سلبًا مع الأعمال الأدبية، والأول هو الأكثر بروزًا وتمظهرًا وإشكالية. ونلاحظ في هذا الزمن، حدوث تغييرٍ كبير في المفاهيم وتعاملِ العالم المتقدم مع موضوع الجنس، الذي نجد أنه يحتل موقعًا بارزًا في جميع الأعمال الأدبية، وتتعامل معه مجتمعات الآخرين بطريقة عاديّة، فلا يكاد عمل يخلو من مشاهد جنسيّة، ولقناعتي بأهمية هذا العنصر في العلاقات الإنسانية عامة، بالرغم من حالة الإنكار في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، حيث تُمارسُ كل الموبقات في الخفاء، ويُستهجن طرحُها والحديث عنها، فلا يمكن حذفه أو تجاوزه. ومثل غيري فإنني أواجه مشكلة أحيانًا في التعامل مع بعض النصوص التي تطرح الجنس بأسلوبٍ فجّ يقترب مما يعرف بالأدب الإباحي. وبالرغم من أنني لا أتجاهل أو ألغي الحدث الجنسي، أو أغيّر في طبيعته وفحواه، فإنني أحيانًا أجد نفسي مضطرّا للتلطيف قليلا من الفجاجة الممجوجة للمشهد الجنسي، حتى لا يرفض الناشر العمل، كما حدث معي مرات عديدة وطُلب مني معالجته، ولا أعتبر ذلك خيانة للترجمة.

ترجمت مؤخرًا رواية «لعبة الحياة والموت» 2020 و«الشاطئ الرابع»2021، كيف وجدت الفرق بين أجواء هذه العوالم من حيث التعامل مع الأفكار واللغة، خصوصًا والأول مشبع بالخيال الشرقي والثاني أوروبي لكنه يخص ليبيا؟
استمتعت كثيرًا بترجمة «لعبة الحياة والموت» للروائي الكبير، مو يان، الحائز على نوبل، والتي نقلتني بالكامل إلى معايشة مفهوم وفكرة التجسّد والعودة للحياة في هيئة مختلفة، وفق مفاهيم الإيمان البوذية والهندوسية، وهو معتقدٌ غريب تمامًا على الثقافة الإسلامية. وتواكبُ الرواية التحوّلات الكبرى التي جرت في الصين منذ ثورة ماو، وما واكبها من مآس ومشاق وصولًا إلى العصر الحديث، وكان لي تماسٌّ مع الصين أيضًا من خلال ترجمة رواية «فتاة الوشاح الأحمر»، وكذلك مقاربة أخرى مع فكرة التجسّد والأساطير الهندوسية في ترجمتي لرواية «موت فيشنو» لمانيل سوري.

آخر أعمالي هي رواية «الشاطئ الرابع» للبريطانية فرجينيا بايلي، تتحدث عن فترة الاحتلال الإيطالي، ويختلط فيها الحقيقي بالخيال الروائي.. مليئة بالتفاصيل عن حياة الليبيين وبالأخص عن المدينة القديمة في طرابلس، وتتطرق كذلك إلى المعارضة الليبية في الخارج وصراعها مع الاستبداد والقمع. سردت من خلالها الكاتبة معاناة ليبيا الإيطالية من أجل أمجاد روما وأوهام الفاشية لتأكيد فكرة «الشاطئ الرابع» كما كانت تسمى ليبيا.

ما الذي يحدد اتجاهك لهذا الكتاب أو ذاك، شهرة الكاتب، أجواء النص، مزاجك الخاص؟ ولا ينفصل ذلك أيضًا عن طلب مؤسسة ما لهذا العمل، الأمر متعلق ربما برؤيتين؟
سبق وأن قلتُ في لقاء لي إن اختيارنا لما نترجم من نصوص، هو ترفٌ لا نملكه، وللأسف فهي قصة حزينة تتعلق بنا نحن المترجمين المغمورين، فمهما تكن جودة صنعتك، تحتاج دائمًا إلى حبلٍ متين مفتول من «العلاقات والحظ» ينتشلك من دوائر الإهمال واللامبالاة، وللالتحاق بمن أسميّهم «مترجمي النخبة» وهم بالطبع على درجة رفيعة من الكفاءة التي أهّلتهم لاحتلال هذه المكانة، وتسعى دور النشر المرموقة إليهم وليس العكس. لكن ضعف الحركة الثقافية في ليبيا وتعرضها للانقسام والأهواء طول خمسة عقود، جعل المشتغلين بالأدب ومن ضمنهم المترجمين، دون قدرة فعلية على إظهار كفاءتهم، مقارنة بغيرهم من العرب، وخاصة في مصر وبلدان المشرق.

لا تزال الترجمة في بلدان العالم الثالث عملًا فرديًا، بينما تصرف مؤسسات الثقافة أموالًا طائلة على برامج ربما لا علاقة لها بصميم العمل الثقافي؟ ما تفسيرك؟
هناك عقبة كبيرة أمام المشروع الثقافي بشكل عام، يعاني منها الكثير من الكتّاب والمترجمين، وهي غياب تام لوظيفة «المحرّر» وهو شريكٌ مهمّ لكاتب النص في صيغته العربية، يراجع الحبكة والسبك ويزيل أي شوائب تُفسد من الشكل النهائي للعمل الأدبي، وقد عانيت ولا أزال من هذا الخلل، والذي مردّه ضعف مناهج اللغة العربية، وتدني العملية التعليمية ومستوى الخريجين، وكذلك الاضطراب الواضح في المشهد الثقافي لأسباب عديدة. أمّا مؤسسات الثقافة في بلدنا فهي قصة مؤلمة أخرى يطول الحديث عنها، لكن الحوصلة النهائية هي فشلها التام، وغالبًا بسبب ما أصابها من ضرر طوال خمسة عقود، وبسبب إدارتها من غير ذوي الاختصاص. وكذلك فالبيئة السائدة حاليًا والناتجة عن الخراب الثقافي والاجتماعي غير مناسبة لازدهار الثقافة، وأخشى أنها ستظلّ سائدة لزمن طويل مهما أنفِق عليها من أموال طائلة، ما لم تتغير الظروف التي أنتجت الوضع السيّئ.

نقلت من الإنجليزية إلى العربية، ولكن ماذا عن العكس، وهل هناك صعوبة في ذلك؟
لم أحاول أبدًا الترجمة ونقل نصوص من العربية إلى الإنجليزية لقناعتي الراسخة أن هذه مهمة شائكة لا أجيدها، مثل ترجمة الشعر التي لا يجب أن يقوم بها إلاّ شاعر. ومهما كان الاعتقاد بامتلاك المترجم لناصية اللغة الهدف، إلا أنني أرى ضرورة تحقق شرط ٍأساس، وهو أن تكون اللغة المستهدفة هي لغته الأمّ، وهو ما ييسّرُ فهم المعاني التي لا توفرها القواميس. وأحب دائمًا تكرار المثل الذي يقول إن الترجمة بالنسبة لي هي مثل نهر يجري في اتجاه واحد فقط.

أخيرًا ما الموضوعات التي تعمل عليها حاليا؟
انتهيتُ أخيرا من ترجمة رواية صغيرة شهيرة لكاتب إثيوبي بعنوان «المجنّد» وتتحدث عن تجنيد إيطاليا للأشخاص لمساعدتها في قتال رجال المقاومة الليبية ضد المستعمر الإيطالي. وأعمل حاليًا على كتاب عن ليبيا لصالح «دار الفرجاني» عنوانه المبدئي «أهلُ الله» وهو سردُ حقيقي لحياة كاتبته الكنديّة التي عاشت تسع سنين في ليبيا خلال فترة الستينيات، ويطرح الكتاب رؤيتها لطبيعة الحياة في تلك الفترة، وستكون بعض الوقائع والآراء التي تثيرها الكاتبة مفاجأة كبيرة لكثير من الليبيين.

من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
من الأعمال المترجمة (بوابة الوسط)
الكاتب والمترجم فرج الترهوني (بوابة الوسط)
الكاتب والمترجم فرج الترهوني (بوابة الوسط)

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
شاهد في هنا ليبيا: قصة فنان تشكيلي من تمسان
شاهد في هنا ليبيا: قصة فنان تشكيلي من تمسان
المغني كينجي.. «تظاهر بالانتحار» حبًّا لأسرته
المغني كينجي.. «تظاهر بالانتحار» حبًّا لأسرته
معرض يحتفي بالألوان ويوثق ذاكرة ألعابنا الشعبية
معرض يحتفي بالألوان ويوثق ذاكرة ألعابنا الشعبية
وفاة المخرج الفرنسي لوران كانتيه عن 63 سنة
وفاة المخرج الفرنسي لوران كانتيه عن 63 سنة
فوز آية ناكامورا بثلاث من جوائز «فلام» الموسيقية
فوز آية ناكامورا بثلاث من جوائز «فلام» الموسيقية
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم