Atwasat

8- من أدبيات رسائل الفاخري

القاهرة - بوابة الوسط: محمد عقيلة العمامي الأحد 01 أغسطس 2021, 09:20 صباحا
WTV_Frequency

«جنقي»  مرحلة البهجة والانعتاق  القصيرة!

غادر خليفة الفاخري طرابلس قبيل نهاية سنة 1975، واحتفل بقدوم سنة 1976 بكوبنهاجن، ومنذ ذلك الاحتفال لا أبالغ إن قلت أنه قضى أسبوعًا واحدًا بمفرده في شقته، التي أصبحت كاستراحة، لليبيين المنطلقين نحو أميركا، أو العائدين منها، فمن يكره يوم اثنين رفقة جنقي الكريم الودود، الذي يتنفس من خلال رفاقه؟

جنقي شخصية لا تطيق الوحدة

جنقي شخصية لا تطيق الوحدة، لا يحب أن يكون بمفرده، كان لا يبتعد عنا، خلال سهرة، وينزوي غير بعيد إلا عند كتابة مقالة الأسبوعي أيام الحقيقة، غير ذلك يظل هو مركز الجلسة، يأخذ رفاقه، بالحكايات الطريفة، والشعر، والقفشات المرحة، فيما تظل الابتسامة والضحكة متربصة بين شفتيه. ولكن عندما ينزوي، كنا نراقبه، عرق يتفصد منه، وهذا يحدث له أيضًا، عندما يتناول وجبة رئيسية. وتتبدل ملامحه وتتسم بالجدية والمعاناة، ولا تنفرج أساريره إلا بعد أن ينتهي من كتابة مادته.

وإن ظل أيامًا بمفرده في بيته، لا تتوقف رسائله، وإغراءاته إلى أشقائه، وأصدقائه بالحضور، وغالبا ما يفلح في ذلك. ذات مرة أخوه ونيس، عاد من كوبنهاجن، وأحضر لي رسالة منه. وبعد حوالي أسبوع، عاد إليَّ ضاحكا، وأخبرني أنه منذ عودته وجنقي يتصل به يغريه بالمجيء إليه، ولكنني بينت له ظروف عملي، وأخرج من جيبه ورقة، قال لي إنه بعثها مع ابن أخيه علي بن زبلح. تقول الورقة:

«إلى أحسن أخ في العالم، ابن الحاجة يامنة، بعد أفضل السلام: ما يبقي في الكيس، يا أخانا ونيس، إلاّ الدرهم النحيس، ولهذا أنا وحدي، الآن، في كوبنهاجن، فأنظر مدى الغربة!! لقد أحببتك كما لم يحبك أحد قط، والله وحده يعلم ذلك . تذكرني دائما .. تحياتي أخوك أبدا: جنقي».

تهاليل المرحلة الثالثة تفيض بهجتها منذ رحيله، ولعل هذه الصورة التي أرسلها في السنة الأولى من وصوله إلى كوبنهاغن إلى والده يتضح مما كتبه خلف صورة، ثم أتبعها برسائل كثيرة مبهجة تعكس روح جنقي المرحة المحبة للحياة، والإنسانية والحرية والكتابة. وبالطبع سوف نتناول ما توفر منها، وهي كثيرة، بعضها كان يخص شقيقه ونيس، مثل هذه الصورة التي أرجعتها إليه من بعد انتهائي من إنجاز كتاب «منابت الريح»، ولكنها للأسف الشديد احترقت مع بيته جراء أحداث بنغازي الدامية سنة 2014 وأحمد الله أنها مما هو موثق بكتاباتي «منابت الريح» الذي تناول سيرة (جنقي). كتب جنقي على ظهر الصورة الآتي:

«إلى أعظم حاج في العالم

إلى الحاج (مرتين) محمد الفاخري

هذه صورة (جنقي) وهو يمثل ليبيا في عقد اتفاقية مع الدنمارك. تستطيع أن تحلف أنه ليس ذلك (الجنقي) القديم، على الأقل عن طريق التطلع إلى ربطة العنق. جنقي يا حاج، أصبح سياسيًا عجيبًا كما لو أنه لم تلده تلك الحاجة. لقد قلت لكل السياسيين هنا، أن (الحاجة) يامنة لا تعرف الدبلوماسية ولكن

(الحاج) علمني إياها!! سلامي إليكم .. ابنك المحب

- سلامي إليك، وإلى رمضان ومحمد و عبدالكريم ، وحتى الحاجة !».

أرجوك ألا تسهر مع أصحابك الليلتين القادمتين!

غير البهجة والسخرية، التي قابل بها دعوة والدته المبكرة للزواج بمجرد أن استقر موظف «ميري» في وزارة الخارجية وردت بعدد من رسائله، إما لإخوته أو لوالده منها هذه الرسالة، التي بعثها إلى والده: الحاج «مرتين» مثلما يصفه جنقي بحسن سخريته الظريفة المقبولة، لدرجة أن الحاج طلب مني أن أنقل إليه نصيحة أيام فرحه، كانت كرجاء ألاّ يبالغ في «سهره» أيام عرسه. قال لي: «قل له يقول لك الحاج «مرتين» أرجوك ألا تسهر مع أصحابك الليلتين القادمتين!». وقد نفذ جنقي رغبة الحاج مرتين! ومنها أيضا هذه الرسالة الساخرة التي بعثها إلى والده، والتي كانت ضمن مقتنيات شقيقه ونيس والتي مثلما قلنا احترقت مع بيته، ولكنني وجدت نسخة منها تنقصها الصفحة الأولى فقط، وهي التي سوف أنقلها مثلما وردت في كاملة في كتابي «قطعان الكلمات المضيئة» من صفحة 144إلى صفحة 148 وللأسف مبينًا بها أن تاريخ 1/12/1987 وهو خطأ مطبعي لأن تاريخها 1/12/ 1987 لأنه سنة 1987 كان قد عاد إلى ليبيا متزوجًا رفقة أطفاله. الرسالة ساخرة للغاية وتبرز حس السرد الساخر الذي يبدع في كحكاء مشافهة، ولا نجده كثيرا في كتاباته. يستهل رسالة - وهي الصفحة الناقصة - من الرسالة والتي نسخناها وأرفقناها ضمن مرفقات الموضوع. الرسالة موجهة لوالده: تقول إلى أمير المؤمنين الذي حج مرتين، فيقول:

أجعنك ملكة العادي والحسادي!! والله ما تسحابي روحك إلاّ فاخرية

«أشكو لك – يا أمير المؤمنين- من الحاجة المباركة آمنة، التي زارتني في منامي ليلة البارحة على غير موعد محدد، كنت في تلك اللحظة أحلم بالسعادة والثراء والاستقرار، ولقاء الأحباب وكنت أضحك في منامي، وأحيانا أبتسم من فرط بهجتي وحبوري بذلك الحلم. غير أن الحاجة أبت إلاّ أن تقاطعني وتتدخل - كعادتها - في شئوني الخاصة، وقررت دون سابق إنذار، أن تفرض عليّ حلما مليئا بالمزالق السياسية. لقد طلبت مني على الفور أن تزور ملكة الدنمارك، وبحكم طاعة الوالدين حملتها إلى القصر، وطلبنا رؤية الملكة، وبالرغم من أن الحاجة كانت تبدو أقل من عمرها، بحوالي عشرين سنة، فإنها كانت تمشي كالبطة، الأمر الذي جعل الملكة تحبس ضحكتها بصعوبة حين رأتها، ما دفع الحاجة إلى الغضب فجأة، ثم وضعت سبابتها على حاجبها، ناشرة بقية أصابعها إلى أعلى، وقالت للملكة بكل ازدراء: «(أجعنك ملكة العادي والحسادي!! والله ما تسحابي روحك إلاّ فاخرية). ورفضت أن تصافح الملكة، بل رفضت أن تجلس معها، وطلبت أنه تغادر القصر في الحال، وعندما جاولت أن أثنيها عن رأيها قالت كعادتها في حسم النقاش:

- «خلاص !». – هذه هي الصفحة الناقصة - أما بقية الرسالة فمطبوعة بالآلة الكاتبة ونسخها مع مرفقات الموضوع .

......................

أما الفترة الثالثة، وهي التي امتدت من مباشرته العمل مستشارا صحفيا في كوبنهاجن، قبيل نهاية سنة 1975 حتى رجوعه إلى ليبيا نهاية 1981 يتعين أن نقسمها إلى مرحلتين: الأولى من وصوله إلى كوبنهاغن وحتى سنة 1979 والثانية حتى عودته نهائيا إلى ليبيا. الفترة تملكته حالتنا حالة الانعتاق والانفتاح على العالم الغربي، وتحقيق ما كان يريده منذ استلامه إلى رسائل صادق النيهوم، المؤثرة من رحيل وغربة ومعايشة تجربتها، وكتابتها، ولكن راحة باله، واستقراره وهناءه، وأفراحه باستقبال إخوته وذويه وأصدقائه، لم تستمر أكثر من سنتين، لأننا نجد رسالة بعثها إلى صديقه جلال الدغيلي من كوبنهاجن في 25/11/ 1977 توضح لنا معاناته السابقة قبل مجيئه إلى كوبنهاجن، ليس بسبب الرغبة في الرحيل، وإنما حلم آخر لخصه صراحة من خلال فقرة من هذه الرسالة تقول:

مأ خوذ قلبي بالناس في كل مكان

«أخي يا صديقي، مأخوذ قلبي بالناس.. مأ خوذ قلبي بالناس في كل مكان. وقد أحببت كثيرا – أكثر مما يتصور خيال بشري -وكانت ثروتي - ولا تزال - حزمة من الخطابات، وبطاقات البريد، والعناوين الجديدة. لا جدال في ذلك، ولكنني - لسوء الطالع – لا أزال أشعر، بطريقة ما على نحو ما، بأنني مشرد لا أزال. لقد اشتعل رأسي بالشيب، وهرمت إلى الحد الذي يشعرك بالوحدة، دون أن أشارك الحياة تجددها، ودون أن أمنح هذا العالم قليلا من الأطفال المشاغبين، حمر الأنوف من أثر السوائل.

حلمت بأن تكون لي زوجة نحيلة تطهو لي طعاما جيدا، وتنتظرني خلف الباب عبر الأماسي الباردة. حلمت بأن أقري أطفال لحظات النبل الإنساني رغم القهر، حلمت بأن أتزاور معهم جميعا بقية أحبابنا. لكنما الريح الدعرة - بنت الداعرة – لا تتوافق أحيانا مع شراعك، وعندئذ تدرك بأن ليس ثمة لديك سوى آلة كاتبة قديمة العهد، وحزمة ذكريات مؤرقة، وتطلع جائع أبدا إلى الشمس، والرفاق، ورائحة العرق النبيل.. ليس غير!. ولقد أوردت الرسالة كاملة في كتابي «منابت الريح»– من الصفحة 245 إلى 252- وستجدون صورتها كاملة.

والواقع أن حالته النفسية هذه استمرت معه لأكثر من سنتين، وكان يعالجها بعدم البقاء وحده؛ إذ لم تخل شقته من رفيق ما، كان يتحايل عليهم أن يبقوا معه، منهم من ظل أشهر في ضيافته. لم يستطع أبدًا أن يمض يوما بمفرده، ودائما ما يجد وسيلة لإبقائهم ومررت شخصيا بهذه الحالة، التي لم تنته إلاّ بعدما قرر أن يتزوج، وبالفعل تزوج وصحب زوجته إلى كوبنهاجن، وقبيل زوجه بقليل وأيضا بعد زواجه لم أنقطع عن زيارته، وكانت تلك الفترة من اسعد أيام حياته وابهجها هي المرحلة التي سنتناولها في الحلقة القادمة.

جنقي الدبلوماسي!
جنقي الدبلوماسي!
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري
8- من أدبيات رسائل الفاخري

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
البرلمان الفرنسي ينشئ لجنة تحقيق بالاعتداءات الجنسية في السينما
البرلمان الفرنسي ينشئ لجنة تحقيق بالاعتداءات الجنسية في السينما
سويسرا ضيفة الشرف في سوق الأفلام خلال مهرجان كان
سويسرا ضيفة الشرف في سوق الأفلام خلال مهرجان كان
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تؤيد إيطاليا في نزاعها مع متحف أميركي
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تؤيد إيطاليا في نزاعها مع متحف ...
ليبيا تشارك بمسرحية في ولاية الكاف التونسية
ليبيا تشارك بمسرحية في ولاية الكاف التونسية
«يونيفرسال» تسمح باستخدام أعمالها الموسيقية على «تيك توك»
«يونيفرسال» تسمح باستخدام أعمالها الموسيقية على «تيك توك»
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم