Atwasat

تنمية تأسيسية... التنمية المنشودة للدولة الليبية

جازية شعيتير الإثنين 07 سبتمبر 2020, 05:08 مساء
جازية شعيتير

في عام 2015 اعتمدت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة، والتي تُعرف أيضًا باسم الأهداف العالمية، باعتبارها دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر وحماية الكوكب وضمان تمتع جميع الناس بالسلام والازدهار بحلول عام 2030. هذه الأهداف السبعة عشر متكاملة؛ أي أن العمل بشأن تحقيق هدف ما سيؤثر على النتائج في مجالات الأهداف الأخرى، وأن التنمية يجب أن توازن بين الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

وقد تزامنت هذه الدعوة العالمية مع ما تمر به الدولة الليبية من أزمة عصيبة، لا مجال لتفصيلها فهي واضحة. وكما يقول الشاعر: "وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ".

وتتعالى بعض أصوات دولية، ووطنية: نخبوية، وشعبية، بالحديث عن المجالات التنموية المستهدفة في الدولة الليبية بوصفها حلا للأزمة الليبية، بدءًا من الحديث عن التنمية السياسية "الوعي السياسي" وخلق البيئة الضامنة للتنمية السياسية المستدامة مثل: دسترة كل الحقوق السياسية والمدنية للأشخاص الطبيعية فرادى وجماعات، والتعدد الحزبي، وآليات العمليات الانتخابية وضمان نزاهتها.

ومرورا بالحديث عن التنمية الاجتماعية سواء تنمية رأس المال البشري، والموارد البشرية من شباب عاطل أو ثائر، من خلال الدورات التدريبية والرامج التأهيلية. كما تتناول مجالات الحماية الاجتماعية سواء الضامنة أو المتضامنة مع الأسر الفقيرة وللفئات المهمشة وذوي الاحتياجات الخاصة بمختلف تصنيفاتهم الصحية.

أو الحديث عن التنمية الاقتصادية من خلال تقوية رأس المال المحلي، وتشجيع القطاع الخاص، والاستثمار الوطني والأجنبي، وبدائل الطاقة، والاقتصاد المنوع سواء: صناعياً أو زراعياً أو سياحياً.

بل إن هناك اتجاهين جديرين بالتنويه: يتبنى أولهما التنمية المؤسساتية وما يدور في فلكها من حديث عن محاربة الفساد، والحوكمة الرشيدة، والنزاهة والشفافية، والرقابة، والتأطير المؤسسي للهياكل التنظيمية وللملاكات الوظيفية. وهو لا يستثني من ذلك أي مؤسسة بما فيها المؤسسة التشريعية والقضائية والعسكرية والأمنية.

والاتجاه الثاني يرى أصحابه أهمية التنمية الثقافية وما يدور في فلكها من منظومة قيمية، وقواعد أخلاقية، ورسائل إعلامية، وتنشئة اجتماعية. وهم يرون أن التنمية الثقافية شرط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحصلة لهما في الوقت ذاته.

كل ما سبق مهم جداً. ولكن أين يقع في هرم الأولويات التنموية للدولة الليبية ؟

في نظري: لا يقع في المرتبة الأولى. فهي مرتبة تحتلها بصدارة تنمية ذات خصوصية ظرفية يمكن وصفها بالتنمية التأسيسية.

ونقصد بها؛ تنمية المقومات التأسيسية للدولة، وهي : التجمع البشري، ورقعة الأرض الجغرافية التي تأويهم، والعقد الاجتماعي الخاص بهذا التجمع البشري.

فيما يتعلق بالتجمع البشري الليبي نحن الأن بحاجة إلى تنمية تأسيسية له، بعد أن نتفق على كونه شعبا ليبيا أم أمة ليبية ... (وحتى لا نضيع في دوامة السؤال التالي: هل نحن الليبيين أمة أم شعب ؟ ... أقول لكم أننا أمة وشعب في نفس الآن!) عبدالحميد البكوش21 نوفمبر العام 1967.

تنمية تذكره بهويته الليبية الجامعة لهوياته المتنوعة الثرية؛ سواء كانت نوعية أم إثنية أم دينية أم سياسية أم مناطقية أم غير ذلك؛ تنمي مشاعر وشعائر الاحترام رغم الاختلاف: تحترم الاختلافات السياسية، مادام التعبير عنها سلميا. تحترم الاختلافات الإثنية كلها، مادام التعبير عنها مقرونا بالليبية. تحترم الاختلافات الدينية، مادامت طقوسها لا تعتدي على الديانات الأخرى.

تنمية تؤسس لدولة؛ يفخر فيها أصحاب التوجهات السياسية المختلفة بتوجهاتهم النظرية، ويعبرون عنها من خلال برامج حزبية؛ تقدمها أحزاب منضبطة، متوافقة على الآليات الديمقراطية.

تنمية تأسيسية يكون هاجسها الأول المصالحة الوطنية عبر آليات عدالة مختلفة ومنوعة في برنامج شامل للعدالة الانتقالية، تنمية تأسيسية لا تغيب عنها المناهج الدراسية ولا الوسائل الإعلامية ولا المؤسسات الأكاديمية، ولا المراكز البحثية.

تنمية تأسيسية تنبع رؤاها وسياساتها من المجتمع المحلي بمعناه الواسع:
• المجتمع المدني معبرا عنه بالمنظمات والجمعيات والنقابات والاتحادات
• المجتمع الاقتصادي معبرا عنه بأصحاب الأعمال و ممثلي الشركات والأشخاص الاعتبارية والاقتصادية.
• المجتمع السياسي ممثلاً في الأحزاب والكيانات السياسية.
• المجتمع الاجتماعي ممثلاً في العائلات والقبائل ومن يمثلها من الشيوخ والأعيان.
• المجتمع الإداري ممثلا في عمداء البلديات ورؤساء المحافظات وأعضاء المجالس البلدية والمجالس المحلية
فيما يتعلق بالرقعة الجغرافية القابعين فوق أرضها وتظلنا سماؤها ويحدنا بحرها بساحل طويل. رقعتنا الجغرافية الملونة والمنوعة بكل المناخات والتضاريس. فهي تحتاج إلى تنمية تأسيسية تعلمنا أولا أن نحبها، ثم كيف نفخر بها؛ وإن تغربنا عنها، أو اغتربنا فيها. ثم كيف نحافظ عليها وعلى بيئتها من العبث الداخلي والخارجي، نحميها من التلوث ما ظهر منه وما بطن، نتخيل شقها بأنهار وربطها بجسور وقطارات، نتخيل شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والمواصلات الرابطة بينها.
فيما يتعلق بالعقد اجتماعي التنمية التأسيسية تكون أولا بفهم تلك الوثيقة، غير المكتوبة أحياناً، الضرورية كركن تأسيسي من أركان الدولة الليبية، وشرط لازب للحافظ على التماسك المجتمعي، ولإنجاز عمليات متزامنة في مجالات التنمية المستدامة كلها.

وبالمناسبة، العقد الاجتماعي ثنائي التركيب فهو يحوى فكرتين: فكرة عقد المجتمع أي يجب أن تكون هناك جماعة مترابطة فعلًا بفضل إرادة اجتماعية مشتركة، وفكرة عقد السلطة أي أن الدولة تقوم على عقد بين السلطة والمواطنين.

كما يضم قيمتين لا غنى عنهما: قيمة العدالة، أي فكرة أن الحق لا القوة هو أساس كل مجتمع. وقيمة الحرية أي فكرة أن الإرادة لا القوة هي أساس خطة كل نظام سياسي.

عقدنا الاجتماعي الليبي يجب أن يضم الحقوق والواجبات للتجمع البشري في مقابل الصلاحيات والمسؤوليات للسلطة، كما يؤطر علاقات التجمع البشري فيما بينهم، يجب أن يتضمن أهم مقومات هوية الدولة، وشكلها ونظامها السياسي والمالي والاقتصادي والمؤسسي والاجتماعي، الحديث هنا عن دستور للبلاد لا بأس به؛ لكن لا يمنع أن تسبقه وثائق اجتماعية تأسيسية تضاف للإرث الدستوري العظيم للدولة الليبية.

تنمية تستهدف وحدة مجالات الهوية: للدولة الليبية، والأمة الليبية، والإقليم الليبي. تنمية تضمن تحقيق الأهداف المرجوة في مجالات التنمية المستدامة 2030. تنمية تنتج رؤية حقوقية تهدى لمواليد الألفية الثانية من الليبيين، كل الليبيين: في الداخل والخارج، النازحين والمهجرين، والمقهورين والمفجوعين، المستبعدين والمستعبدين، بما يشكل وعيهم بمقومات تأسيس الدولة الليبية ليكون أساساً لتنمية مستدامة ضامنة لاستمرار دولة ليبيا في المستقبل. هي تنمية للأجيال القادمة ...

وفي الختام ،،،
لقد رأت الدول الصديقة وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بأننا في حاجة ماسة إلى ثلاثة مسارات رئيسة: الأمني والسياسي والاقتصادي؛ بيد أن هناك مسارا غائبا، ولعله لا يقل أهمية، وهو المسار الاجتماعي؛ فالحوار الاجتماعي يضمن بناء السبل السلمية لتحقيق المبادئ والغايات التي يقوم عليها النظام المجتمعي المنشود، وهو الضامن للتنمية التأسيسية، مناط قيام دولة ليبيا المستقبلية.

ولقد شهدنا إرهاصات هذا المسار حين استشرفه السيد غسان سلامة في خطته الرباعية 2018 ، من خلال ملتقى غدامس الموءود وما مهد له من لقاءات مجتمعية تشاورية نظمها "مركز الحوار الإنساني". ولعلنا نشهد ولادة قريبة لنتائج عمل لا يقل أهمية، وهو مشروع الحوار الاقتصادي الاجتماعي لليبيا الذي ترعاه "الإسكوا" وهو عبارة عن عملية تشاورية فنية شاملة بهدف وضع رؤية مستقبلية للتنمية المؤسسية والاجتماعية والاقتصادية في ليبيا.