Atwasat

العلمانية مصطلح عربي قديم

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 26 يوليو 2020, 12:50 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لعله لم تثر، في الثقافة العربية، دوامات من الجدالات والسجالات، منذ ما عرف بعصر النهضة العربية وحتى الآن، بشأن مفهوم وارد من الثقافة الأوربية والمصطلح المعبر عنه، مثل تلك الدوامات التي دومت حول مفهوم العلمانية والمصطلح المعبر عنها.

لن يخوض هذا المقال في نقاش يدافع عن العلمانية أو يهاجمها، وإنما سيركز على التعريف البسيط لها في أوروبا والأصل اللغوي لها، وكذلك في استخدام المصطلح العربي.

تعرف القواميس والموسوعات الإنغليزية التي استشرناها العلمانية secularism على أنها "لا مبالاة أو رفض أو إقصاء للدين أو الاعتبارات الدينية". أو أنها "أية حركة في المجتمع تولت بعيدا عن الآخرة باتجاه الحياة على الأرض". أو أنها "نسق معتقدي يرفض الدين، أو يعتقد أن الدين لا ينبغي له أن يكون جزءا من شؤون الدولة أو جزءا من التعليم العام [في المدارس التابعة للدولة]". وكان أول استخدام معروف للمصطلح بين سنتي 1850- 55.

في التعريفات الثلاثة المستشهد بها أعلاه، التي لا تختلف جوهريا عن تعريفات العلمانية في مصادر أخرى، لا نجد تعابير من مثل "معارضة الدين" أو "معاداة الدين" وإنما تتضمن هذه التعريفات اعتبار الدين شأنا فرديا شخصيا.

في الإنغليزية يتسلسل الأصل السلالي للمصطلح المعتمد حاليا صعودا إلى الإنغليزية الوسطى العائد إلى اللفظة الآنجلو- فرنسية seculer، العائد إلى اللفظ اللاتيني saecularis، المنحدر من saeculum، التي تعني العالم الحالي [المٌعاش فعليا]، جيل، عصر، قرن، دنيا [عالم]".

الفرنسيون يستخدمون لفظة أخرى، داخلة في الاستعمال الإنغليزي هي أيضا، ولها نفس معنى secularism، هي laicisme، في الإنغليزية laicism، التي طوعت في بلدان المغرب العربي إلى نطق العربية بحيث صارت تكتب وتنطق "اللائكية". والمصطلح في الفرنسية يتسلسل من لفظة يونانية هي laikos، التي يقصد بها من لا ينتمي إلى رجال الدين.

في العربية، المتداول أن مصطلح "العلمانية" سُكَّ في منتصف القرن التاسع عشر. وثمة خلاف حول هل هي "العِلمانية" بكسر العين، نسبة إلى العِلم، أم "العَلمانية" بفتح العين، نسبة إلى العالَم، أو الدنيا.

لكن جورج طرابيشي يرمينا بمفاجأة مذهلة، تزلزل السائد وتحسم الخلاف بشأن إعجام العين. حيث يثبت أن المصطلح بإملائه هذا استخدم في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي [انظر: جورج طرابيشي، هرطقات1: عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية، ط3، دار الساقي، لندون، 2011. مقاله: العلمانية: مسألة سياسية لا دينية. الصفحات: 205- 17]. وهو يعتمد في هذا على كتاب عنوانه "مصباح العقل" من وضع الأسقف واللاهوتي القبطي سايروس بن المقفع، المولود سنة 915 م، الذي كان يشغل وظيفة كاتب في الدولة الأخشيدية في العهد الفاطمي. ففي معرض حديث هذا الأسقف عن الخلاف بين الطوائف المسيحية بشأن زواج الكاهن، يقول: "وقد رأى المتقدمون... رأيا في الأساقفة. أما المصريون فرأوا أن يكون الأسقف، بالإسكندرية خاصة، بتولا لم يتزوج في حال علمانيته".

ويرى طرابيشي أن استخدام ابن المقفع القبطي لهذه اللفظة في ذلك الوقت ودون تقديم شرح لها، يدل على أنه ليس مبتدعها وأنها كانت متداولة بين رجال الكنيسة من سائر الطوائف المسيحية الشرقية. ما يعني أن تاريخ نحت الكلمة يعود إلى زمن أبعد من ذلك، "ربما إلى القرن الثاني الهجري الذي شهد بداية تعريب الكنائس المسيحية. هذا إن لم يعد إلى تاريخ أبعد، نظرا إلى ثبوت وجود مسيحية عربية في نجران في اليمن منذ القرن الخامس الميلادي على الأقل".

ويستطرد طرابيشي بأن التمييز بخصوص الأسقف "بين طوره الدنيوي وطوره الكنسي إذ يشترط فيه البتولة (= عدم الزواج) ‘‘في حال علمانيته‘‘ فلا مجال للشك في أن عين ‘‘العلمانية‘‘ ينبغي أن تعجم بالفتحة لا بالكسرة، لأنها لا تحيل إلى العلم، بل إلى العالم أي الدنيا".


ما من شك في أن هذا الاكتشاف بالغ الأهمية في ما يتعلق بتاريخية المصطلح وأصالته في العربية. غير أنه لنا ملاحظتان بالخصوص. حيث نرى، أولا، أن المهم في المصطلح هو الاستقرار والوضوح في الثقافة التي استعارته، حتى ولو كان مباينا لدلالته في الثقافة المستعار منها. كما نرى، ثانيا، أن كتابة المصطلح بفتح العين وبهذا الشكل "العَلمانية"، فيه خطأ إملائي. فنسبته إلى العالَم تحتم أن يكتب "العَالْمَانية".