Atwasat

أبوريدة.. الجامعة بأساتذتها وطلابها

سالم الكبتي الأربعاء 25 مارس 2020, 12:00 مساء
سالم الكبتي

هنا بنغازي. فيها التقى الوطن بأبنائه دون ثمة فرق. ذلك قصر المنار. تلك الجامعة الوليدة. وفي الخلف البحر ملتقى الحضارات أمام الأعين يمتد. يتواصل مع البعيد. يراه البصر أزرق صافيا وأحيانا يهدر في كبرياء وتتكسر أمواجه عند أقدام الشاطئ. ينحسر النظر ويتعب ويرتد على أعقابه إلى نقطة البر.
هنا توطن العلم في ربط لمعنى الاستقلال الذي أعلن من شرفة المنار. ومن تفاصيله حرية المعرفة والفكر والبحث والرأي واستقلالية الجامعة التي ظلت علامة من علامات الوحدة الوطنية على الدوام.

طلبة الدفعة الأولى الذين في أول عام جامعي للمؤسسة الوليدة 1955 _1956 بلغ عددهم واحدا وثلاثين أتوا من جميع المناطق وتوزعوا في أقسام اللغة العربية واللغة الإنجليزية والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والاجتماع. وجدوا أمامهم في القاعات الصغيرة أساتذة كبارا كانوا يمثلون خلاصة العطاء الفكري والبذل العلمي بلا حدود.

من بين هؤلاء الكبار يبدو د . محمد عبدالهادي أبوريدة الأستاذ والعالم والفيلسوف مهيبا وسط طلابه. يحاضر ويناقش ويحاور. الفلسفة والمنطق ومدارسهما. أم العلوم والحكمة. كان أبوريدة من الطلبة الأوائل الذين تخرجوا فى قسم الفلسفة فى الجامعة المصرية بالقاهرة وكانت تسمى بجامعة فؤاد عام 1934. كان من بين زملائه في الدفعة ذاتها : نجيب محفوظ وتوفيق الطويل وعلي أحمد عيسى. الأخيران حضرا أيضا للتدريس بالجامعة فى بنغازي. أحدهما وهو الطويل أستاذا لفلسفة الأخلاق والثاني وهو علي عيسى أستاذا لعلم الاجتماع. هؤلاء الزملاء الأربعة هم أبطال رواية صديقهم محفوظ (القاهرة الجديدة) التى صدرت عام 1945 وأشار إليهم فيها بأسماء مستعارة.

في العريش عند البحر الأحمر شمال سيناء ولد أبوريدة في نوفمبر 1909. ورحل في نوفمبر 1991. وبين هذين الشهرين الخريفيين حيث تهاجر الطيور وينضج البلح وتقترب تباشير الشتاء تكمن حياة طويلة وعريضة شكلت أبعاد وتفاصيل سيرة هذا العالم الإنسان. نال الماجستير عام 1939 في أطروحته عن أحد كبار مفكري المعتزلة ومنظريهم. كانت بعنوان (إبراهيم بن سيار النظام وأراؤه الفكرية والفلسفية) ومن جامعة بازل بسويسرا عام 1945 نال درجة الدكتوراة عن رسالته التي أنجزها بالألمانية حول الغزالي ونقده للفلسفة الأغريقية. اشتغل أستاذا في جامعة بلاده مصر وتولى وظائف ثقافية في باريس ومدريد. ثم حط الرحال في الجامعة الليبية مع أول الأساتذة الذين وصلوا للإسهام في نشأتها منذ انطلاقتها.. د. طه الحاجري ومحمد شعيرة وعبدالعزيز طريح شرف والدكتور ويليامز.

في بداية تكوين الجامعة الليبية سكن أبوريدة بمبناها الصغير قبل أن يحضر أسرته من مصر. المبنى أيضا احتوى الطلبة في القسم الداخلي تلك الأيام وكثيرا ماسهروا معه الليالي في جلسات علمية رائعة إلى قرب الفجر خاصة في ليالي شهر رمضان. واستمعوا إلى تلاوته للقرآن الكريم وترديده للابتهالات والأدعية. كان عالما إنسانا تعلوه مسحة صوفيه وخشوع كاملين وأحيانا كان ينتقل بهم إلى مقهى الفردوس القديم المجاور للجامعة حيث يعطي محاضرته لهم هناك على كراسى المقهى. له مواقف كثيرة معهم اتسمت بالأبوية والتعاطف معهم ومع مشاكلهم الخاصة. تحدث بكثير من اللغات ودرس بعضها.. الألمانية واللاتينية والفارسية وكان ملما بغيرها أيضا ولحفظه عديد القصائد من عيون الشعر العربى والعالمي استشهد بمختارات منها فى أحاديثه ومحاضراته وبحوثه. إضافة إلى تدريسه بعض مواد علم الاجتماع واعتبره طلابه أبا لهم وأستاذا مبدعا في كل التخصصات إضافة إلى تحقيقاته العلمية وتراجمه الشهيرة. فى تلك الأجواء حيث أسس قسم الفلسفة كان قد وضع حجر أساس لمدرسة فلسفية علمية معاصرة متخصصة في ليبيا. شجع طلابه على أن يكونوا فى مقدمتها: ابراهيم الهنقارى ومحمد بالروين ومحمد أحمد الشريف ومحمد حسني شعبان ومحمد عبدالكريم الوافي وعلي فهمي خشيم ومحمد ياسين عريبي. بعضهم واصل ومنعت البعض الأعباء الوظيفية ومشاغل الحياة دون الاستمرار.

في إحدى ليالي شهر رمضان عام 1959 ألقى الدكتور أبوريدة في قاعة الجامعة محاضرة عن الحياة وغايتها قال في ختامها: (نحن فى رمضان وهو جزء من نظام حياة الإنسان غايته العناية بالروح والإرادة وهذا الشهر يقتضي الإخلاص وصدق الحال. إن الإنسان أمام مشكلة الحياة وغايتها يقف أمام احتمالين: إما أن يغلق عينيه عن الفتنة الموجودة فى الأشياء ويصرف عقله عنها. وإما أن يعتبر نفسه ممثلا لفكرة وخطة ومحققا لغاية وفي هذه الحالة يتفق مع الكون ومع نفسه وكل ميسر لما خلق له) .

انطلاقة قسم الفلسفة في الجامعة الليبية الصغيرة على يد أبوريدة كانت فتحا لباب ولجه الكثير من الأساتذة الذين ظلوا مصدر فخر لها ولطلبتها ولليبيا التي احتفت بهم وأتاحت لهم المجال العلمي وحرية البحث لم يجدوها تلك السنوات في بلدانهم وجامعاتهم الأصلية. أغلبهم كان مطاردا أو مغضوبا عليه من الأنظمة. شهد القسم فلاسفة وروادا على درجة كبيرة من العلم والعطاء الممتاز أمثال: محمود قاسم ومحمد أبوريان وتوفيق الطويل وعزمي إسلام وغوث الأنصاري وعثمان أمين وتوفيق رشدي وعبدالرحمن بدوي وعادل فاخوري ومصطفى حلمي.. وغيرهم.

كانت الجامعة الليبية مكانا رائعا وجميلا لكل الأفكار والأجيال. وأرادت أن تحقق حلما لليبيا ومستقبلها ونهضتها. الجامعات صانعة المستقبل على الدوام. والجامعات بلا حرية أو ظروف مساعدة على العطاء تظل مجرد مبان موحشة يقتل فراغها العاطفي والعلمي من ينتمي إليها أو حتى يمر عبر طرقاتها. الفراغ لايولد إلا فراغا مثله.

في إبريل 1974 عندما انتقلت الجامعة الصغيرة إلى مبناها الجديد وأضحت مدينة وحدها حضر أبوريدة مع زملائه الذين أسهموا في إنشاء الجامعة. وكانت تلك المرة الأخيرة.

أبوريدة. العالم الإنسان والفيلسوف. رحمه الله. أيام عاشتها بنغازي وليبيا. والجامعة.. وربما لن تتكرر إلا بعد زمن طويل!!.