Atwasat

حرق الكتاب

رافد علي الإثنين 09 مارس 2020, 05:51 مساء
رافد علي

كان لاكتشاف الكتابة أن دشن الإنسان مرحلة التاريخ بالمعنى المؤسس. فضمن جدلية من الأقدم في حضارات الشرق القديم هل هم الفراعنة أم حضارة سومر في العراق؟! نجد أن معيار الكتابة من العناصر المحورية المرتكز عليها في التحليل العلمي لمعرفة الإجابة لهذا السبق الحضاري وجودا، فالفراعنة عرفوا الكتابة على ورق البردي، في حين أن سومر كانت تكتب على ألواح طينية، مما جعلها تعيش أفضل من ورق البردي المعرض للتآكل والتلف بصورة أسهل وأسرع

عن طريق الكتابة طور الإنسان مفهوم التدوين عبر ابتكار «الكتاب» في صورة لفائف قبل أن يكتشف التجليد ليصبح كتابا في صورته الحالية. ورغم ذلك لم يسلم الكتاب كونه وسيلة تواصل فكري من العبث به وإتلافه، كونه شكل على مدى التاريخ أداة لتقديم طرح مغاير لما تستسيغه السلطة الدينية أو الدنيوية أو حين تجليهما معا في شخص ولي الأمر.

العرب قديما رغم تواصلهم مع حضارات الشام والرافدين وما وراءها انطلاقا من بلاد فارس؛ لم تندمج ثقافتهم مع الكتابة، إذ ظل أسلوبهم نقلي معتمدا على الحفظ وتبجيل القدرة عليه حتى بعد ظهور الإسلام. يرى اتجاه في علم التاريخ، على رأسهم إغنازيو غويدي، أن العرب بوسط شبه الجزيرة القاحلة كانت تعاني عزلة الجغرافيا بحكم الصحراء أولا والجبال على امتداد البحرالأحمر المعروفة باسم المصفاة، ويستمر التسلسل الجبلي على امتداد جنوب شبه الجزيرة وصولا لمرتفعات عمان، مما ولد عزلة تاريخية عززت عدم استيعاب الكتابة كمفتاح عصري حينذاك عند العرب البدو. وتشير الكثير من المأثورات على مدى تمسك البدو العرب بالحفظ وتحقير الكتابة والتدوين على أي وسيلة متاحة كالعظام وجذع النخل، أو على جلد الحيوان، أو حتى ما سماه العرب لاحقا بالقرطاس، إذ ينقل الأصمعي أنه سمع يوسف بن حبيب الفهري رجلا ينشد:
استودع العلم قرطاسا فضيعه
وبئس مستودع العلم القراطيس

فقال يوسف: «قاتله الله ما أشد صيانته للعلم وصيانته للحفظ…».

لقد استورثت الأمة العربية خصلة احتقار الكتابة وبقيت متأصلة حتى بعد فجر الإسلام، إذ يردد الصف الأصولي حديثا للحبيب المصطفى «نحن أمة أمية، لا نكتب وخصلة لا نحسب»، رواه ابن ماجه وأبو داود والنسائي عن ابن عمر مرفوعا. ولعل هذا الإرث الذي يهمش الكتابة قد أسهم في منح السلطة عربيا عبر تاريخنا جرأة شديدة على حرق الكتب كتدبير احترازي حينا أوعقابي أحيانا كثيرة، فقد أمر الخليفة الفاروق بحرق وثائق فارس بعد فتحها، وحرق الخليفة عثمان أي مصحف يخالف مصحفه، وأتلف الأمويون ما سجله أبان بن عثمان بن عفان لمحاسن الأنصار.

عصر التدوين الذي دشنه العباسيون في محاولة لترسيخ الثقافة العربية عبر تحويل صناعة الورق من سمرقند إلى بغداد العام 794م، وأمر هارون الرشيد حينه الناس بأن لا يكتب إلا على «الكاغط» أو الورق كما كان يسمى حينها؛ لم يحول هذا التحول الحضاري في إزالة خصلة النيل من المكتوب بالسهولة المعتادة، طالما أن المكتوب لا يتماشى مع القائم والغالب كما حصل للمعتزلة ولابن رشد في الأندلس لاحقا. ولا يجب أن نتجاهل حتما أن الكاتب العربي نفسه بعد عصر التدوين كان يلجأ لحرق كتبه أو يقوم بغسلها بالماء أو يدفنها في الأرض لأسباب نفسية بحتة، كما فعل أبوحيان التوحيدي كمثال تاريخي بارز في هذا السياق، مما حال دون وصول أفكاره إلينا بشكل كامل، بدلا من التعرف إليها في مقتطفات عند غيره من الكتاب.

يقول الكاتب الفرنسي لوسيان بولاسترون في كتابه «كتب تحترق… تاريخ تدمير المكتبات»، إن هدم المكتبات سلوك يعود لأقدم العصور، فقد ظهر مدمرو المكتبات بالتزامن مع ظهور الكتب نفسها، مرجعا سر هذا الإجراء بأنه يكمن في عدم إمكانية الهيمنة على الشعب المتعلم المثقف. ففي تاريخنا لإهلاك المكتبات سير محزنة، ففي المغرب العام 500 هجري حرق يوسف ابن تاشفين مكتبة الغزالي، لأنها احتوت على مصنفات علم الكلام، وحرقت مكتبة الطوسي ببغداد مرتين بحجة المبتدعة. واحترقت المكتبة الفاطمية بالقاهرة بسبب احتجاجات عسكر على قادتهم الأتراك.

من المحزن أن نظل نصف أنفسنا بأننا أمة لا تقرأ ونمنح للكتاب في حياتنا مكانة متواضعة بعد كل هذا السقوط الحضاري لأمتنا، وليظل الحفظ والتلقين خصلتين عربيتين بامتياز وماكنتين في مؤسساتنا التعليمية والتربوية المعاصرة، فزادت عليها هوة فقدان ملكتي الاستماع أولا والفهم ثانيا بما يحجر على بروز روح أكثر إبداعية واستقلالا.