Atwasat

بيت النمل

يوسف القويري الأربعاء 28 مارس 2018, 10:45 صباحا
يوسف القويري

قبل عشرين عاماً مضت، شاءت أحوال خاصة أن أقيم في إحدى القرى ذات الطبيعة الصحراوية، حيث غاصت قدماي في تربةٍ صهباء يخالط هشاشتها الجيرعند النبش، وتنتشر على أديمها شظايا كامدة من الصوان الموشى بالزرقة حتى أن كلمة "قرية" كانت تبدو ضرباً من المبالغة، خاصة لمن استوطن بلداناً زراعية عريقة على ضفاف الأنهار.
وكان البيت الذي مكثت فيه سنة كاملة مهجوراً ونائياً عند أطراف البلدة تحوطه من كل الجهات "سواني" ميتة - وهي رقاع محدودة من أرضٍ زراعية عائلية - تركها أصحابها أو باعوها دون أن يخلفوا وراءهم سوى العشب البري وقليل من نخيلٍ متفرقٍ يحمل عراجين ضامرة، وقد استرعت انتباهي بضع شجيرات زيتون قديمة متفرقة تكاد أن تتهالك بغصونها وغضونها على الأرض، ولا يهتم بأمرها أحد.
وقد هيأت لي الإقامة المنعزلة في ذلك الموضع الريفي مكاناً نموذجياً للدراسة، وكان هناك قليل من الغربان السود بشعة المنظر، وربما هُدد واحد هجرته خليلته، وبوم كثير أسمعه ولا أراه تحت جنح الظلام يختلط أحياناً مع عزيف صراصير المزارع البعيدة.
وفي النهار المشرق كنت أستجيب دائما لشقشقة العصفافير المحلقة في الأعالي بظرفها وإنسيابها المثير في الفضاء واستعصائها على الدرس، خصوصاً من طرفي، فكيف يتسنى لي ملاحقتها في مجال طيرانها الواسع والمرتفع جداً في بعض الأحيان لدرجة غيابها كنقاطٍ باهتة عن الأنظار. ولا يمكن التحدث عن أعشاشها قرب شجر الصنوبر الذي يوشك أن يشكل بقربي غابة استوائية، لأن تلك الأعشاش متخفية في عمق أغصان شجر الصنوبر السامق، ثم إن العصافير مدروسة من كل الوجوه وخالية من الغموض، وبوسع المرء أن يراها دون عناء.
أما النمل فذلك شيء آخر. والنمال هنا فوق هذه التربة هي سيدة البيئة بالرغم من أن أحداً لا يلاحظها ولا يأبه بها، فمن الجنون المطبق في نظر الجميع أن يهتم أي أمرئ بحياة النمل وتصرفاته، وفي أفضل التقديرات عدُّ متابعة النمل هزلاً سخيفاً.
ويمكن للصفوة فقط أن تقدر عالياً جهود علماء الحشرات وهي جزء من العلم العام، وقد يتاح لبعضهم قراءة كتاب علمي عن النمل أو النحل أو مطالعة روايات خيالية عن تلك الدواب الضئيلة وأفعالها العجيبة، بيد أن العامة وهم السواد الأعظم من المخلوقات الذاهلة عما حولها لا يوجدون في نفس الموقع الذي توجد فيه الصفوة من الطبقات المستنيرة، وهم بالتالي لا يعرفون شيئاً البتة عن النمل إضافة لتصرفاته. ولربما سنح لقليل من العامة في قاراتٍ وأمكنةٍ بعيدة أو قريبة أن يكون لديهم تصور ضيق عن الحشرة تشوبه الخرافة. والحصيلة النهائية أن واقع العامة العملي بكل مما فيه من هموم لا يضع شؤون الحشرة في نطاق الانتباه والجدية ولا يلتفت – بطبيعة الحال – إلى ذلك إطلاقاً
وقد كان النمل في ذلك البيت الكئيب المهجور جحافل لا حصر لها احتلت كل زوايا البيت وحيطانه وسور حديقته الجرداء، ولم تترك موضعاً مناسباً أو غير مناسب لم تستعمله، فما لا يناسبها تعمل بمثابرتها على تحويره وإعداده، فالنملة في البيت الخاوي الذي أقمت فيه هي سيدة المكان بلا منازع. وقد دفعني فضولي ومطالعاتي في علم الحيوان وعلم الحشرات وعلم سلوك الحشرات وحفزني على إبداء ملاحظات تجريبية عن سلوك النملة ومعيشتها ووسائل كدها ودفاعها. وتراءى لي أن هناك نوعاً منها في هذا المكان غير مصنف في الجداول المطبوعة والمعتمدة. ولم يصل لي من أصدقائي أية بيانات وأوصاف مسجلة ومنشورة تطابق ما أراه وأتساءل حوله وهو نوع أو سلالة معدلة منتشرة في المكان الذي قمت بدراستها فيه كهاوٍ أو مجنون دون أن يختلف المعنى كثيراً، فهوات العلوم يسمون في الغرب الصناعي: "مُحِبُّو الطبيعة" الذين يقومون بإجراء التجارب. وبعض تلك التجارب إمتداد للتجارب المدرسية وإن لم تكن طبق الأصل وبعضها الآخر مبتكر، وقيض لجزء من ذلك البعض الأخير أن يلقي تقييماً علمياً بالشطب أو باعتباره إشارة إلى منحى طويلٍ وصعبٍ وغير مجدٍ في تقييم اللفيف الجدي الناقد.
ولقد كان على كاهلي من البداية تصنيع أدوات اختبار من الخشب والزجاج والطين والكلس المموه وتوفير مواد كالسكر والحبوب "قمح – شعير – لوز – فستق" وكذلك ديدان الزرع خضراء اللون. أما العدسات والمجسات بكافة حجومها فكانت موجودة عندي بدرجات تكبير أكبر من الميكروسكوب وهي مخصصة – من طرفي – للمتابعة والاختبار الميداني. وكان ذلك سخيفاً إلى أقصى حدٍ في ذهن إنسان لم يتخلص تماماً من النظرة العامة لكن إغراء دراسة النملة استولى على ذهني واستهواني فقررت الاتجاه صوبه لأدرك أكثر: كيف ولماذا!؟. وكانت الكتب والأدوات والبيئة تسمح جميعاً بطرح تساؤلات من هذا النوع.
وفي ذلك البيت المهجور كان كل ما يحيط بي – هو بالنسبة لأي شخص آخر – دافعاً للهرب. وبالرغم من إيحاءات الوحشة وجدت المكان أنيساً بل أكثر من ذلك فالمكان المهجور وفر – بعناصره الظاهرة والمتوارية – مادة التأمل وأيضاً مادة لبرنامج علمي محدد هو – كما ورد سابقاً في هذه المقالة – محاولة لدراسة سلوك النمل على قواعد ومعطيات علم سلوك الحيوان بنزعته التجريبية ومدوناته المفيدة لأي استطراد ولو كان في نطاق خاص.
ومن الطرائف غير الخالية من الفائدة أن أتجه – قبل دراسة النمل الصغير – إلى ملاحظة نِمال أخرى عملاقة نسبياً، لافتة للنظر بتجوالها في جنبات البيئة التي تحوطني. وهذا ما حدث بالضبط من ناحية تأجيل البرنامج الأساسي والانغمار في اهتمام طارئ ومؤقت، خاصة أن ذلك الاهتمام لا يتطلب أي معدات أو أدوات كثيرة بل لا يستلزم أحياناً أي أدوات فتجري الملاحظات بصدده في يُسْرٍ تامّ.
وكان الاهتمام الطارئ منصباً على نوع من النمل كبير الحجم إلى درجة ناشزة قياساً بحجوم جميع أنواع النمل الأخرى سواء كانت موجودة في البيت المهجور أو غيره من الأمكنة هنا وهناك على مدى يابسة العالم.
وبالوسع أو من الجائز إعطاء تسمية مجازية لهذا النوع تفي بالغرض، إنه عملاق إذا وضعناه وسط سائر أنواع النمل الأخرى، ولونه شديد السواد فيكون مطابقاً لتسميته "النملة الزنجية" !.
كانت النمال الزنجية تسعى هنا وهناك في البيت المهجور تحت شمس أوائل الصيف. وأمام وضوح المشهد لم يكن ضرورياً استعمال عدسات التكبير اليدوية أو المقاريب المضحكة التي قمت بتركبها من أنابيب رفيعة شبيهة بالخيزران ومجاهر مقربة مزودة عند حافاتها بمصابيح صغيرة جداً تعمل بالبطارية الجافة وترسل نوراً قوياً كاشفاً، وتلك أداة لا بأس بها للدخول في الشقوق وسبر أغوارها. بيد أن ذلك كله لم يكن لازماً لملاحظة النملة الزنجية. وفي السابق – منذ مدة طويلة قبل المجيء إلى هذا البيت المهجور – تسنى لي أن أقرأ عن هذا النوع من النمل دون أن يعني ذلك الاقتصار على أقاليم القارة الأفريقية فقط. فهذه النملة الزنجية تَدُبُّ في بقاع الكوكب المتباينة مناخاً وتضاريسَ مثل النمل "الفارسي" بلونه البرتقالي الذي لا ينحصر انتشاره في نطاق الهضبة الإيرانية – بعكس ما توحي به التسمية – لأنه يوجد على مدى واسع في وادي النيل وقد اعتاده المصريون من قديم الزمان.
وأمدتني تلك المطالعات بمعرفة عامة شاملة لأحوال عيشها أضفتها كزادٍ نظري إلى مشاهداتي العابرة والمتقطعة قبل وصولي إلى البيت المهجور بوقت طويل.
وكانت معطيات المعرفة السابقة تحدد تلك "النملة الزنجية" كحشرة اجتماعية تحيا في نظام تعاوني دقيق داخل مكامنها الغائرة كفريق مثل بقية أنواع النمل وأنها وافرة النشاط تعمل بدأبٍ طوال نهار الفصول الملائمة. وبالرغم من تلك الحصيلة النظرية السابقة فقد لاحظت أموراً على جانب كبير من الغرابة. كانت النملة الزنجية في البيت المهجور قليلة العدد نسبياً حين نقيسها بالعدد المهول للنمل الضئيل المألوف بلونه الرمادي الذي أجلتُ برنامج دراسة سلوكه، فقد بدت النمال الزنجية - في الحديقة شبه الجرداء في البيت المهجور- كسولة جداً ومتلكئة وتكاد أن لا تفعل شيئاً. إنها بالضبط – كما تراءى لي - تتسكع في جنبات الحديقة ببطء وتتوقف أحياناً دون سبب يمكن فهمه. وخلال مسارها العشوائي المضطرب لم يكن ثمة عمل على الإطلاق. والمعروف عن هذه النملة الزنجية في جميع الأماكن الأخرى أنها نملة ترابية البيئة في المحل الأول وأنها حفارٌ من الطراز الممتاز الذي لا يبارى، فكثيراً ما يشاهدُ المرء في الأمكنة الأخرى أكواماً من التراب عالية وملحوظة بعدما استخرجها النمل الزنجي من باطن الأرض وكدسها جوار الحفرة العميقة بفضل عمل فريق كبير من الحفارين حتى أن تلك الأكوام العجيبة تلوح – عندما نأخذ في حسباننا نسبة كتلة الكوم إلى حجوم الشغالين – كأنها جبال أو تلال أو كثبان صنعها مجهود كائنات صغيرة. لكن المشهد في البيت المهجور مختلف تماماً، فهذه الحشرة المولعة بالحفر لا تفعل هنا – في البيت المهجور - نفس الشيء الذي تفعله في الجهات والأمكنة الأخرى، فلم ألحظ طيلة المتابعة أي أكوام من التراب ولا أي حفرة قامت بإعدادها وتهيئتها تلك النملة الزنجية في البيت الذي أقيم فيه. وفوق ذلك فاجأتني النملة الزنجية بمنحى في السلوك مخالف لكل ما عرف عنها. وقد تركني الموقف حائراً لبضعة أيام بسبب أنه من المستحيل تصور النملة الزنجية أو أي نوع من النمال يحيا بدون فريق عمل داخل مستعمرة أو مسكن شيده بمعرفته وفق طراز حياته الخاص. فهنا، في هذا البيت المهجور لا شيء من ذلك، فالنملة الزنجية – ذات الغلاف الكيتيني الأسود الجاسئ الشبيه بغلاف الخنفساء العادية – لا تبدي أدنى ميل للحفر أو للعمل في فريق أو حتى للإقامة في مسكن مشترك مع مثيلاتها.
إنها أمامي بكسلها وتقاعسها عبر ساعات كثيرة من الملاحظة يوماً بعد يوم لا تسعى ضمن أي فريق، فباستمرار كنت أراها أفراداً متباعدة غير متضامنة تؤوب في نهاية النهار أو خلاله كل واحدة على حدة إلى نقرة أو حفرة غير عميقة متاحة من طبيعة البيئة وتضاريسها لا من مجهود الحشرة، وهناك ترتكن مستلقية لتنام أو تتظاهر بالراحة من فرط كسلها بلا غطاء نباتي أو مخلوط ترابي يغطي الحفرة.
وذات نهار قدمت لإحداها على لوح مرتفع نسبياً كمية من الطعام المدروس، حينذاك شبت برجليها الأماميتين وأسندتهما على حافة اللوح وشرعت في تناول الطعام، وكانت تفاصيل التناول شديدة الوضوح من خلال العدسة اليدوية. وكنت في ذلك النهار أعتزم أخذ فكرة عامة عن نظام الشعور بالألم لديها. وإثر بتري لنصفها الأسفل عند أعلى البطن تاركاً الصدر والرأس دون إجراء جراحي تجريبي واصلت الحشرة – وهي بلا بطنٍ على الإطلاق – التثبت برجليها الأماميتين دونما اضطراب على الحافة مستمرة في تناول الطعام وكأن شيئاً لم يكن. ومن الواضح جيداً أن النملة الزنجية لم يتسرب إلى بقية كيانها الموجود أقل إحساس بالألم، فهي لم تستشعره إطلاقاً.
وقد هيأت الظروف لعالم الحشرات المرموق "جاك لوب" في القرون الماضية دراسة فصيلة محددة من العناكب حيث لاحظ أن أنثى العنكبوت قد قضمت ثم التهمت بشراسة رأس ذكرها خلال المسافدة – أي العملية الجنسية عند الحشرات – فاستمر ذكر العنكبوت في نشاطه الجنسي البائس حتى بعدما فقد رأسه. ونقل عن "جاك لوب" الفيلسوف الأمريكي الكبير "ول ديورانت" ذلك المشهد الطريف في كتابه "مناهج الفلسفة" المترجم إلى اللغة العربية. وينبغي القول إن ملاحظة العالم "جالك لوب" هي مغايرة تماماً للإجراء الجراحي التجريبي على النملة الزنجية من حيث التعمد والتصنيف النوعي وغريزة الجنس مقابل غريزة الجوع.
إن نظام الشعور بالألم عند النمل عموماً – وبالتالي عند النملة الزنجية – يختلف اختلافاً كبيراً عن نظام الشعور بالألم عند الحيوانات. ورغم أن الحشرات تعد حيوانات فإن سماتها المورفولوجية ونظم الشعور لديها تكاد تجعلها مخلوقات متميزة قائمة بذاتها بمعزل عن الدواب الحيوانية. والثابت علمياً أن الحشرات تبلغ – عدداً ونوعاً – حوالى 80% من الكائنات – بما فيها الإنسان – التي تَدُبُّ في أرجاء المعمورة باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي وكذلك سفوح البراكين وتيارات الماجما ومياه المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار والمستنقعات وأجواء الغلاف الغازي لكوكبنا.