تبني الفنانة سعاد اللبة حوارها مع الصورة وفق علاقة متماهية مع معطيات المكان وما يمثله في الواقع المتعين والآخر البعيد، كيف يمكن التعامل معه كفكرة، تؤسس في النهاية لنص ضوئي بأبعاده الفنية.
لذا فالواقعية في الصورة هي غاية الفنانة التي تحاول من خلالها استنطاق الإحاسيس المتولدة من المكان، في تفاصيله البسيطة بالألوان ودونها، ويصبح للحظة آنذاك وقعها النافذ على المخيلة والعدسة ليتكون في النهاية المشهد.
ما يكون الصورة فنيًّا هو الإحساس بحسب رأي الفنانة، وما يترجم الإحساس إلى رسم لوني هو التكوين العام في فكرة تبحث عن مَن يجسدها إلى عمل فني، وربما ذلك يتطابق مع تجربتها في التشكيل، إلا أن تثبيت اللحظة يفصل بين الاثنين، ويصبح الزمن والعدسة سيدي الموقف.
ولأن اللوحة الفوتوغرافية هي ومضة مجمدة من حكاية لها أثر سردي متعدد، يمضي النص الضوئي عند سعاد على وقع تلك الاحتمالات، فللصورة أكثر من تفسير ظاهر وخفي، وهو ما يمكن تسميته ببساطة أسلوب «السهل الممتنع».
النص المفتوح في اللوحة الضوئية، لا يعني كذلك سحب المعنى إلى حدوده القصوى، واذا ما اختمر في مخيلتنا ملمح أولي عن المشهد فهو لن يكون بعيدًا عن دلالته الواقعية.
طالع: محنة «سافي».. الأنثى في تحولاتها الثلاثة
إن الاستنارة بالفلسفة الواقعية للصورة نلمح فيها إعارة تبدو مجانية من المحيط، لكنها تكتنز في عمقها ضريبة الجودة المشهدية، التي يقف معيارها معاينًا فنيًّا لكل الأبعاد الرئيسية المكملة لفضاء اللمسة الضوئية، فرؤيتنا للشيخ مثلا وهو يفتح أو يقفل الباب، يجسد بتلك الحركة البسيطة في وجه من وجوه التأويل الخروج أو الدخول من عالم إلى عالم، ومن صدى ذكرياته البعيدة، إلى حيث صخب الحياة المتجدد.
كذلك المعنى الذي ترمي إليه لوحة الخياط أو «التارزي» ليست منفصلة في ايحاءاتها العامة عن لوحة الشيخ، مثلما هي ليست بعيدة عن معطيات المكان أو محله المكتظ بالأقمشة المتناثرة من حوله، أن نظرة شاردة في الفراغ، تحاكي تجادبات الزمن، والراسية عند تقلبات الحياة وهمومها، هي ذات اللحظة التي نعيشها كل يوم.
تتصل هذه الملامح بحكايا زمنية قد تتباعد مسافاتها، لكنها تنحت في جوهر المادة التوثيقية للحياة، التي تبدأ من صورة الطفلة المبتسمة وتنتهي عند الجدارية الضوئية لبائعة الخبز، وتمضي مع سلسلة عديدة من الوجوه والأماكن والأزياء بتنوعها المحلي والعربي، كسائح ضوئي يترجم بمخزونه النفسي الهائل انعكاسات روح الإحساس الساحر بين الفنان والعدسة.
في أعمال سعاد اللبة، ربما تتوقف الكاميرا عند بعض الانفرادات الاستعراضية في إحدى الزوايا، وهي وإن كانت تترجم إمكانات العدسة وقدرتها التقنية،فهي تعكس لنا روح المكان، خصوصًا إذا ما كانت الوجهة شوارع المدينة القديمة بطرابلس.
وقد ساعد تناوب الضوء والظل بفضل الأقواس على رسم امتداد جميل للشارع، ومكن الضوء المتاح العدسة من الوصول إلى أقصى نقطة ممكنة.
إن اللحظة المتفلتة التي تحاول اللبة رصدها، تظل في النهاية هدفًا تطارده المخيلة باستمرار، وتستدعي ذائقتها الفنية لتثبيت ومضتها الهاربة من لمسة الزر، وتشاغل في مفازاتها فتنة الضوء اللعوب.
تعليقات