Atwasat

«غرباء تمامًا».. السينما الإيطالية بملامح مسرحية

طارق الشرع الثلاثاء 07 مارس 2017, 12:57 مساء
WTV_Frequency

في مكان ما بدواخلنا ثمة فضاء مقدس لا يجوز فيه ممارسة طقوس المشاركة مع الآخرين، مناطق محرمة تحتفظ بصور لخطايانا وأصوات لسقطاتنا وابتسامات لا تعنينا، نناضل من أجل إقامتها في زوايا مظلمة ينعدم عبرها التواصل مع من حولنا، يسميها البعض بـ«الاستقلالية» ويصفها الآخر بـ«الخصوصية» ونراها اليوم «صناديق سوداء» كتلك التي تقودنا لمعرفة أسباب سقوط الطائرة.

في هذا السياق يقودنا المخرج الإيطالي، باولو جنوة، من خلال عمل سينمائي مميز لتجربة تقوم على مدى الاختلاف الناتج عن العلاقات بين الناس في حال فتحت صناديقهم السوداء. الفيلم بطولة مجموعة من الممثلين نذكر منهم جوزيبي باتيستون وآنا فوليتا وماركو جياليني، بينما اشترك في كتابة السيناريو الروائي فيلبو بولونيا وباولو كوستيلا، الإنتاج إيطالي.

تدور أحداث فيلم «Perfetti Sconosciuti» (غرباء تماماً) حول لقاء يجتمع فيه عدد من الأصدقاء مصحوبين بعائلاتهم للعشاء في منزل أحدهم لمشاهدة الخسوف معاً، وأثناء اللقاء تقترح عليهم صاحبة المنزل لعبة للكشف عن جزء من أسرارهم عن طريق وضع هواتفهم في منتصف الطاولة والإجابة عن أي متصل بالهاتف أو عبر وسائل الاتصالات العالمية من خلال فتح مكبر الصوت والحديث معه بصوت مسموع أمام الجميع عن أي أمر مهما كانت خصوصيته، لتنكشف بعدها حقائق كان يحتفظ بها كل منهم بعيداً عن أقرب الناس له، من هنا كانت الهواتف الذكية في فيلم «غرباء تماماً» بمثابة الصناديق السوداء لمالكيها.

الفيلم لا يقدم قيماً إنسانية، وإن استخدمها، ولا يطرح أسئلة إشكالية تتعلق بالصواب والخطأ، هو فقط يهتم بعرض ممارسة عامة من خلال تجسيدها في مجتمع صغير من الأصدقاء باختلاف اهتماماتهم واتجاهاتهم، الفيلم يقترح شكلاً محدداً لطرق ووسائل هذه الممارسة لكنها لن تكون وسائل قطعية، ذاك أن الهواتف النقالة لا تتعدى كونها وسيلة وحيدة لإيجاد حياة بديلة بمعلومات تخصنا وحدنا، فالسر وجد قبل وجود الهواتف وطرق كنز الأسرار وجدت أشكالاً مختلفة قبل ظهور هذه التقنية، فممارسة إخفاء الأسرار في حد ذاتها تشكل محور اهتمام الفيلم، إلا أن ما يميز الفيلم كقيمة فنية يكمن في كيفية تحويل هذه القصة البسيطة جداً إلى عمل سينمائي جيد، فوجود عدد من الممثلين الجيدين من حيث الأداء، وحضور المفارقة في القصة كتلك التي أخرجت «بيبي الشاذ» من ورطته، ومعاناة الزوجين «إيفا وروكو» بسبب طبيعة أعمالهما، وأفعال الخيانة المتكررة بين الأصدقاء. كل هذه التفاصيل وغيرها كانت داعماً نحو إنجاز عمل سينمائي جيد، إلا أن السؤال الفعلي - في اعتقادي - يتعلق دوماً بكيفية إنجاز عمل فني ليكون جيداً.

يقرر فيلم «غرباء تماماً» انتهاج طريق المغامرة في إنجازه على مستوى الفرجة، فالابتعاد عن مصادر التنوع في المكان والزمان والشخوص يعرض الفيلم لخطر التكرار وبالتالي الدخول في مرحلة الركود والملل، وأظننا هنا نتحدث عن أهم ما تميز به الفيلم، فتحدي مصادر الجذب -إن جاز لنا التعبير- جاء من خلال تفعيل إمكانات العمل المحدودة «نظرياً» بقدر الإمكان بل وتوظيفها في مساحات مختلفة بفعل اعتماد العمل على الحوار بامتياز لتمرير الأحداث بالكيفية التي سنحاول تناولها.
لعب الحوار في الفيلم دور العنصر الرئيسي المسند إليه قيادة العمل من نقطة لأخرى في إيقاع متزن وبسيط. الحوار ينطلق بين الأصدقاء ليفتح المجال لمناقشة أي شيء بشكل منتظم عبر جلوسهم حول طاولة دائرية دون مركز محدد للحوار فيتحدث الأصدقاء عن العلاقات الإنسانية ببساطة أثناء الأكل (الارتباط – الخيانة – الأسرار – الولادة) كل شيء يمكن أن يحضر على الطاولة بفعل ارتباطه بموضوع قبله وكل شخص قد يكون المسؤول عن الانتقال من موضوع لآخر في شكل منتظم، وهنا بإمكاننا الإشارة إلى أن تخصيص الحوار في دائرة العلاقات الإنسانية قام كرافد للموضوع الرئيسي في القصة الذي ناقش حدود التواصل بين الإنسان ومحيطه.

فيلم «غرباء تماماً» تم تصويره في أجزاء من شقة (قاعة أكل – غرفة جلوس – مطبخ – حمام – شرفة) واستحوذت قاعة الأكل على النصيب الأكبر من المشاهد، ورغم حدود المكان الضيقة فإنه اتسع لاحتواء الأحداث بسلاسة وذلك من خلال العمل على تقليص ملامح المكان لدرجة الاختفاء في عدة مناسبات، الأمر الذي ألقى بالصور الساكنة ( الكراسي – المفروشات – لون الجدران.. ) خارج مجال الرؤية، هذا ما عمل على تحقيقه الفيلم بفعل وجود عدة عوامل تلازمت طيلة دقائق العمل.
الأول تعلق باعتماد الفيلم على الحوار، كما أشرنا، للانتقال من حالة لأخرى، حيث تزداد فرصة التواصل مع الحوار مقابل نقص الاهتمام بالصورة في ظل حضور مادة كلامية كبيرة جداً ومنوعة في ذات الوقت.

العامل الثاني تمثل في حركة الكاميرا بانضباط داخل أروقة الشقة وبين الأصدقاء بشكل أكثر خصوصية

العامل الثاني تمثل في حركة الكاميرا بانضباط داخل أروقة الشقة وبين الأصدقاء بشكل أكثر خصوصية، حيث ستلتزم الكاميرا بالانتقال بشكل دائري في مساحات صغيرة وعلى مسافات قريبة من الوجوه، هذا ما سيتيح المجال لتتبع انفعالات المتحدث، ذاك أن كاميرا الفيلم لا تجد دائماً متسعاً لمتابعة انفعال الصامت إلا في إطار وجوده كشريك في الكادر، بمعنى أن الكاميرا وتحديداً على طاولة الأكل كانت تكتفي في الغالب باحتواء وجوه زوجين من بين الأزواج الجالسين حول الطاولة، عندما يتحدث أحد الزوجين للآخرين سيكون موضوع الحديث عامًا ويكون الزوج الصامت في محل انفعال عام، وسيختلف الأمر إن كان الحديث قائماً بين الزوجين ويتعلق بأمر يخصهما دون الآخرين، عندها ستتابع الكاميرا مشهداً منفصلاً عن الآخرين عبر حوار متبادل بين الزوجين، الأمر يكون مختلفاً فقط عندما يتعلق بيبي، الموجود دون زوجة، فقط بيبي الضخم يتوسط الكاميرا وحيداً في غياب الزوجة المزعومة.

لن أقلل من قيمة «غرباء تماماً» عندما أزعم بأنه لم يكن فيلماً سينمائياً خالصاً، بل هو عرض مسرحي بمقاييس الفن المسرحي، الشقة كانت خشبة العرض بامتياز وبابها كان الستارة التي تستقبل وتودع أبطال العمل بانتظام، المشاهد الثنائية كانت تدور في أماكن قريبة من وجود المجموعة، الانتقال الجماعي من مكان لآخر كان حاضراً كانتقال المجموعة لمتابعة الخسوف مثلاً، الكاميرا عملت على تشكيل المكان في أكثر من مناسبة بفعل إعادة رصده من زوايا مختلفة كما حدث في الأجزاء الأخيرة من الفيلم عندما انتقل جزء من الأصدقاء للجلوس في القاعة الممتدة لقاعة الأكل لتتم إعادة تشكيل المكان عبر وجود طاولة الأكل في الجزء الخلفي من الكاميرا عكس ما كانت عليه في ما سبق، لنشاهد صورة مختلفة لذات المكان الذي احتوى أحداث الفيلم منذ بدايته تقريباً، من هنا بإمكاننا التماس الإضافة المكتسبة في الفيلم من آليات العمل المسرحي.

كلعبة كشف الأسرار يمارس الفيلم مجموعة من الألعاب على مستويات مختلفة أهمها كما أظن تلك المتعلقة بتلاعبه بزمن المشاهدة، فالفيلم يفترض زمناً غير حقيقي وهو الزمن الذي تابعنا فيه الأحداث بشكل متصل ودون فراغات، وهناك زمن حقيقي (بالنسبة للفيلم) وهو زمن تم فيه القطع ليستأنف وجوده في اللحظات الأخيرة من زمن المشاهدة، أي بعد خروج الأصدقاء من الشقة، فالفيلم يخبرنا في النهاية بأن اللعبة لم تتم وأن ما شاهدناها هي أحداث غير حقيقية وأن مقترح «إيفا» لم ينل القبول لصعوبة فتح الصناديق ومشاركة الأسرار مع الآخرين.

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
«صانعة ثوب بابا الفاتيكان».. وفاة مصممة فساتين الزفاف اليابانية يومي كاتسورا
«صانعة ثوب بابا الفاتيكان».. وفاة مصممة فساتين الزفاف اليابانية ...
وفاة الكاتب الأميركي بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك» عن 77 عاما
وفاة الكاتب الأميركي بول أوستر صاحب «ثلاثية نيويورك» عن 77 عاما
فوز الفنانة الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي بجائزة «أميرة أستورياس» للأدب
فوز الفنانة الفرنسية من أصل إيراني مرجان ساترابي بجائزة «أميرة ...
فرقة مسرحية بريطانية تجعل «الخشبة» منبرا لأصوات اللاجئين
فرقة مسرحية بريطانية تجعل «الخشبة» منبرا لأصوات اللاجئين
رغم العنف والفقر.. حي في بوغوتا يسعى إلى استقطاب السيّاح
رغم العنف والفقر.. حي في بوغوتا يسعى إلى استقطاب السيّاح
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم