Atwasat

كلمات لم تعد كالكلمات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 أغسطس 2024, 01:20 مساء
محمد عقيلة العمامي

تستهويني الكتب والمجلات القديمة، وكان سور الأزبكية، بالقاهرة - حتى أصبح جزءا من مخارج محطة مترو العتبة - مصدرا رئيسيا للكتب القديمة، بعدها انتشرت، هذه الكتب، مفروشه في عدد من شوارع وميادين القاهرة.

بالقرب من مدخل دار القضاء العالي في القاهرة، ذلك المدخل المهيب ببابه العالي وأعمدة مدخله الرخامية، التي كنا نشاهدها في أفلام تلك الفترة عندما يكون ثمة مشهد لمحكمة، أو من بعد خروج المتهم مشفوعا بقرار حكمه من ذلك المدخل المهيب الذي كنا، نحن شباب الستينيات نتصور أمامه، فمن من جيلي الذين زاروا القاهرة في ذلك الوقت لم تلتقط له صورة في ذلك الموقع. أمامه الآن، عند ناصية (التوفيقية) يجد المرء كتبا قدمية، بعدد من اللغات، مفروشة للبيع. العجيب أن تلك المساحة التي أصبحت محطة للحافلات الصغيرة البيضاء التي تجوب شوارع ومناطق القاهرة كافة، أصبح اسمها (الإسعاف) نسبة إلى وجود هذا المرفق وكذلك صيدلية صرف الأدوية للمتقاعدين!

منذ يومين وجدت عددا قديما من مجلة أميركية للنساء صدرت شهر فبراير سنة 1956، يعني قبل أن أزور القاهرة، أول مرة بسبع سنوات! كان على الغلاف عنوان لمقال: (ما لا يقال أمام المرأة؟).

ومن بعد أن حاولت، في سري، أن أجد إجابة لهذا السؤال انتبهت إلى أنه ناقص، لأن ما كان معيبا أن يقال زمان، أصبح، من العيب ألاّ نقوله الآن! ثمة أشياء تقال، وأخرى لا تقال، ولكن العولمة فتحت الأبواب كافة ولم يعد هناك ما تخفيه المرأة، حتى إن أرادت أن تخفيه صوتا كان أم صورة، أما الألفاظ فلم يعد لها مدلول واحد فقط، وبالتالي تستخدم، غالبا، بحرية مطلقة خارج البيت، وأحيانا داخله!

الكلمة قد تؤذي كالرصاص، والكلمات كائنات تولد وتحيا وتموت، بل ويتغير مدلولها بين حين وآخر. يقول المقال الذي أشرت إليه إن التفوه بكلمة (قميص) ـ فيما يبدو، قميص النوم - أمام إحدى السيدات في القرن التاسع عشر إهانة بالغة لها، ولم يخف وقع هذه الكلمة إلا بعد أن أصبحت (الرداء الداخلي)، والمقال يفسر أن كلمة (السوتيان) يوحي بالنهدين، وبالتالي من قلة الأدب استخدامه أمام السيدات، والظريف أيضا أنه يجب أن يقال صدر المرأة ولا يقال نهداها!

والأمر يصبح أكثر عجبا عندما نعلم أنه من العيب أن تقول على مائدة طعام، تحوي سيدات، أنك تحب (ورك) الدجاجة، الصح أن تقول ساقها أو رجلها! ولا ينبغي أثناء الحديث، على مائدة الأكل أن تتلفظ بكلمات محددة لأي سبب من الأسباب على مائدة الطعام كأن تقول كرسي، لأنه يشير إلى جزء مهم بالنسبة للمرأة يلامسه! وبلغ العجب أنه في بعض الولايات الأميركية كانوا يتجنبون عبارات كأن تقول كان الثور يتقدم البقر، وإنما يقال ذكر البقرة يتقدمها! ويقال ذكر الماعز بدلا من (التيس).

لقد بلغت دقة انتقاء الكلمات حد أن الرقيب على المصنفات الفنية اعترض على أغنية تقول كلماتها: «دعني أطفئ النور وأنا في السرير»، وصححها لتكون «دعني أطفئ وأذهب لأنام». وما كانوا يتفوهون بالأشياء التي لها علاقة وثيقة باختلاء الإنسان بنفسه في المرحاض على سبيل المثال، ولم يستسيغوا أن يسموا المربية بالخادمة، وحرصوا ألاّ يقولوا ذهب إلى الخمارة، بل يقولون ذهب إلى البار، أو المشرب! وامتنعوا عن استخدام العبارات الجارحة المباشرة، فلقد كانت تهمة (هتك العرض) متداولة فجعلوها (غرر بها)! ويتجنبون كلمة (فُصل) من العمل فيقولون إنه استقال.

وخلاصة المقال أن الكلمات لم تعد كالكلمات، ولا الناس كالناس. ولو أننا قارنا حالنا أيام تاريخ صدور المجلة التي أشرت إليها، وانتقينا كلمات كنا نستخدمها في ذلك الوقت لوجدنا أنها بلا معنى الآن.

قمثلا جملة (فيا «ري»: «قالك خالك عاللوح؟») جملة تبدو الآن بلا معنى، في حين أنها ليست جملة بريئة على الإطلاق! على الرغم من كون كلماتها عادية، فكلمة (ري) تعني اسم الملك في ورق اللعب (الكارطة) والجملة مصطلح للسخرية استخدم طويلا في الستينيات ولو تأملته بعقلية هذا الجيل لكان بلا معنى.

ولكن معناه حينها مزعج للغاية. والجملة البسيطة، المتداولة حتى الآن : «صقع عليك» أشك أن شباب هذه الأيام يعرف مصدرها!؟ وسببها ومن قالها، على الرغم من عمرها القصير نسبيا. الخلاصة أن كثيرا من الألفاظ والجمل يتداولها الناس ويستخدمونها، من دون أن يعوفوا أساسها! وإن كانوا يعرفون معناها.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»