1-
المفكر الجزائري (فرانز فانون)، في كتابه سوسيولوجية الثورة ـ الثورة الجزائرية في عامها الخامس، كتب: «إن ما يصيب الاستعمار من تمزيق، ذاتي في أول الأمر، يكون نتيجة انتصار المستعمَر على خوفه المزمن، وعلى اليأس الذي يكتنفه، والذي حصره فيه استعمار استقر على أمل البقاء إلى الأبد». حينها كانت الإمبريالية الفرنسية تتقطع أوصالها في جلّ مستعمراتها، وعلى التحديد في بلد احتلتها لقرن وثلاثين سنة، الجزائر ما اعتبرتها فرنسية حتى النخاع. وفانون المفكر والمناضل عاش اللحظة الاستثنائية للثورة الجزائرية وفي شعاب البلاد، وحللّ وأعمل منظاره في جوانية البلاد، في قراها وجبالها الثائرة، ومن خلال ذلك اعتبر أن الانتصار البين تغلب الجزائريين على خوفهم ويأسهم.
كانت الثورة في كوبا في لحظة انتصارها، في مواجهة الإمبريالية الأميركية، عندئذ جيفارا استنبط، كفاعل نفس الدلالة الفانونية، حين أكد على أنه بالإمكان أبدع مما كان، فحين تغلب المقاوم على خوفه غرس دبوسه في جسد الفيل، أو كما قال. الإمبريالية الأميركية أيضًا، تأسيسًا على ذلك، تحولت إلى شرطي العالم، حيث بعد سنوات قليلة نفذت جريمة قتل جيفارا، عقب أسره في بوليفيا. ما فعلته فرنسا في الجزائر فعلته أميركا في فيتنام، سياسة الأرض المحروقة، على رأس ذلك اغتيال القادة.
ولم يكن ما حدث حدث لسجل التاريخ، لأن ما كان سوف يكون، حيث توفرت نفس المعطيات، فلم يمت جيفارا واستقلت الجزائر. هذه الحقيقة الساطعة قد تُغيب، كما تَغيب الشمس عند كثافة الغيوم، لكن هل غابت الشمس حقًا؟... ثم إن سياسة الأرض المحروقة، فاغتيال القادة، مؤشر على أن الاحتلال ينتابه الوهن، حيث إن الخوف واليأس انتقلا إلى المغتصب، حينها يكون المُحتل قد عرف جيدًا أساليب الاحتلال، فخلق السبل لمقاومتها وإفشالها وانتزاع المبادرة من العدو.
وقد أشار فانون في كتابه أن انتزاع المبادرة جعل «الجنرال الفرنسي شال يعلن بأن الانتصار على التمرد غير مستبعد. ويجب ألا نتهكم، إذ إن جميع الجنرالات، في القيادة، في جميع الحروب الاستعمارية، يرددون الأمور ذاتها، ولكن كيف لا يفهمون، أنه لم يكن ثمة من ثورة واحدة قهرت أبدًا. فماذا يمكن أن يعني حقيقة قول كهذا: قهر ثورة؟ ولم يكن يخامر المسؤولين عن الثورة، أي وهم حول قدرات العدو الإجرامية».
2-
خلال العدوان الإمبريالي الصهيوني على غزة، خلال أطول حرب تواجهها إسرائيل، ومن قبل المقاومة الفلسطينية، خلال المدة من 7 أكتوبر 2023م إلى يومي هذا 5 أغسطس 2024م، تابعت حرب الإبادة التي يقودها بايدن وينفذها نتنياهو، خلال هذه المدة التي ليست بالقصيرة تابعت الجريمة الكبرى. ومما طالعت في الخصوص كتاب فرانز فانون ما أشرت إليه، وفي الأثناء تم اغتيال «إسماعيل هنية»، ما أثار من ردود أفعال لا تخطر على بال مشوش، فتذكرت مثلًا قرصنة فرنسا للطائرة التي من ركابها قادة فرنسا الخمسة، ثم محاولة اغتيال أحمد بن بلا في فندق في طرابلس الغرب. ولم يكن ذلك للنظر من ثقب الباب الموارب لما مضى، فقد عشت المسألة الجزائرية كما الفلسطينية، والفيتنامية والجنوب أفريقية وغيرها، وذلك منذ الطفولة، ولم أسمع مرة كلمة لواثق بانتصار أيهم.
وخلال هذا العمر تعددت عمليات اغتيال قادة المقاومة في العالم، وفي فلسطين على الخصوص، ولم يدر بخلد أحد نهاية لمقاومة ما، والفلسطينية علم لذلك، ولم يكن أحد من قادة مقاومة، ليس من السهل اغتياله في لحظة، وفي حاشية أي مكان.
لم يكن هنية استثناء من ذلك، لكن الزمن هو الاستثناء، حيث الثورة الفلسطينية، التي استغرقت ما يزيد على سبعة عقود، قد عاشت تحولات في الزمان والمكان حتى أمست آخر عنقود الثورات. فباتت المسألة الفلسطينية مسألة المسائل والبلاد المحتل.
الاحتلال الذي ليس كمثله شيء، فلسطين ليست بلدًا محتلًا وحسب، ولا قادة المقاومة الفلسطينية قادة وحسب بل هم أبناء المعضلة: هم في لحظة استثنائية في تاريخ البشرية، في بلاد استولى عليها بشر من الكرة الأرضية، ما يعتقدونه أنهم شعب الله المختار، من حارسه قوى عظمى وقارة تقود حضارة العالم المعاصر، فبأي اغتيال تسطعون؟ اغتيال شخص سيحل كل هذه العقد البشرية، كل هذا الركام من المسألة اليهودية الأوروبية المنشأ، إلى نتائج الحروب الكبرى، إلى هيروشيما ونجازاكي وما دعي بتوازن الرعب.
فلسطين تاريخ من حروب وجيوش ومعتقدات، يجملها اغتيال هنية من حق حلمه ورحل، ولكن هل يمكن لمن زرع الموت أن يحصد الحياة؟.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات