بعد نجاح ثورة فبراير في إسقاط العهد الديكتاتوري ومع بداية التحول الديمقراطي في ليبيا سنة 2012، بانتخاب المؤتمر الوطني العام كأول سلطة تشريعية مُنتخبة تحكم ليبيا بعد الثورة، استلم المؤتمر الوطني العام السلطة من المجلس الوطني الانتقالي بكل سلاسة في عرس ديمقراطي مهِيب لم تشهدهُ ليبيا طوال تاريخها.
كانت فترة حكم المجلس الوطني الانتقالي أقل من سنة، من إعلان التحرير في نهاية أكتوبر 2011، إلى تسليم السلطة والخروج من المشهد السياسي عبر التداول السلمي في أغسطس 2011، لم يُقدم أعضاء ورئاسة المجلس الوطني الانتقالي أي حجج أو ذرائع من أجل تمديد بقائهم في السلطة، على الرغم من أنهم جسم تشريعي يستند إلى الشرعية الثورية، على العكس من ذلك كانت هناك إرادة ورغبة واضحة لذى معظم أعضاء المجلس الوطني الانتقالي لتسليم السلطة وإنجاح عملية التحول الديمقراطي في ليببا.
وبالتالي وصل المجلس الوطني الانتقالي للسلطة بالشرعية الثورية وخرج منها بشرعية الصندوق، وأنجز المجلس الوطني الانتقالي المهام الرئيسية المُسندة إليه وهي تحرير البلاد والتسليم إلى سلطة مُنتخبة.
بعد قرابة سنتين من وصول المؤتمر الوطني العام للسلطة تم انتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، وإنجاز الدورة الأولى لانتخابات المجالس البلدية في مناطق ليبيا كافة.
أقر المؤتمر الوطني العام القانون رقم 10 لسنة 2014، للذهاب للانتخابات التشريعية، وأجريت انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو 2014.
صاحبت الانتخابات متغيرات وأحداث كثيرة زادت من حجم التدخل الأجنبي، منها اندلاع الحرب الأهلية وإقفال الحقول النفطية، مع إطلالة شبح الحرب الأهلية وصدور حكم المحكمة العليا ببطلان انتخابات مجلس النواب أصبح الانقسام السياسي أمرًا واقعًا بين جسمين تشريعيين كلاهما يرى أنه الأحق بالشرعية، ومع استمرار إغلاق حقول النفط وتوسع الحرب الأهلية وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية دفع ذلك الأطراف السياسية للذهاب إلى الصخيرات المغربية لإنجاز الاتفاق السياسي الليبي، من أجل تقاسم السلطة التشريعية بين الجسمين المتصارعين على الشرعية البرلمان والمؤتمر الوطني العام، أنتج الاتفاق السياسي المجلس الرئاسي كسلطة تنفيذية موحدة مهمتها تهيئة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية في البلاد من أجل الوصول إلى الانتخابات.
عالج الاتفاق السياسي الانقسام التشريعي بتحديد مهام واختصاصات مجلسي النواب والدولة، واستمر انقسام السلطة التنفيذية بعد رفض مجلس النواب منح الثقة للمجلس الرئاسي وحكومته برئاسة فائز السراج، ولم تشفع للسراج عضويته السابقة في مجلس النواب، وبالتالي استمر الانقسام بوجود الحكومة الموقتة في الشرق والمجلس الرئاسي في الغرب، ولم يتعامل مجلس النواب مع الاتفاق السياسي بالشكل المطلوب، على الرغم من أن الأجسام السياسية الحالية كافة تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي الليبي.
استمر الانقسام السياسي لسنوات وأصبح أمرًا واقعًا وتعددت المشاورات والمبادرات الدولية لإنهاء الانقسام.
ومع نهاية الحرب وعقب التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، أصبحت الظروف مواتية لتأسيس اتفاق سياسي يُوحد المؤسسات ويدفع باتجاه الانتخابات.
ومن خلال المسارات الثلاثة للمرحلة التمهيدية بدأت جلسات حوار تونس ـ جنيف برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وبمرجعية دولية استندت على مخرجات مؤتمر برلين (1) وقرار مجلس الأمن رقم (2510 )
لسنة 2020، وبعد جلسات ماراثونية عبر مُلتقى الحوار السياسي الليبي انتُخبت سلطة تنفيذية جديدة، رئيس وزراء ومجلس رئاسي، وفق خارطة طريق المرحلة التمهيدية فإن هذه السلطة التنفيذية الجديدة الموحدة هدفها تهيئة الظروف في البلاد من أجل الوصول لانتخابات رئاسية وبرلمانية في 24 ديسمبر 2021، وتم توحيد السلطة التنفيذية بعد انقسام دام أكثر من ست سنوات، منذ منح الثقة لحكومة «الوحدة الوطنية» في فبراير2020.
بدأ العمل في مجلس النواب على إسقاطها وحجب الثقة عنها، وبعد نحو ستة أشهر من بداية عمل الحكومة وفي سبتمبر 2021، تم حجب الثقة عن حكومة «الوحدة الوطنية» بطريقة جدلية، ومع بروز عوامل القوة القاهرة التي رافقت مسار الانتخابات الرئاسية بسبب التدافع والصراع الدولي حول ليبيا وقصور القوانين الانتخابية، ومع الاشتراط غير المبرر لتزامن الانتخابات البرلمانية مع الرئاسية حسب نصوص المرحلة التمهيدية، فشلت العملية الانتخابية المقررة إقامتها في ديسمبر 2021، ومعها برزت ملامح عودة انقسام السلطة التنفيذية من جديد.
في فبراير 2022، تعزز الانقسام السياسي من جديد مع تكليف مجلس النواب عضو المجلس السابق فتحي باشاغا بتشكيل حكومة جديدة، تهدف بحسب التعديل الدستوري الثاني عشر لتهيئة الظروف للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في زمن لا يتجاوز الأربعة عشر شهرًا، عادت الأوضاع السياسية إلى مربع الانقسام ما قبل 2021، حكومة «الوحدة الوطنية» في طرابلس والحكومة الليبية في بنغازي، وفي مايو 2023، أسقط مجلس النواب فتحي باشاغا من رئاسة الحكومة الليبية وكلف أسامة حماد بديلًا عنه، أقر مجلسا النواب والدولة التعديل الدستوري الثالث.
وأصر المُشرع على ربط مصير الانتخابات التشريعية بالرئاسية لقطع الطريق أمام أي فرصة لإنقاذ العملية السياسية.
بعدها اعتمد مجلس النواب مخرجات لجنة «6+6» المنبثقة عن التعديل الدستوري الثالث عشر، وكانت أبرز مخرجات قوانين الانتخابات الرئاسية وانتخابات مجلس الأمة هي تشكيل حكومة جديدة موحدة للإشراف على الانتخابات.
حجة الأجسام السياسية الحاكمة بأنه من غير الممكن أن تقام الانتخابات في ظل وجود حكومتين، أما إقرار الميزانية وكل ما من شأنه أن يُطيل فوضى المراحل الانتقالية فيمكن أن يتم في وجود حكومتين أو أكثر.
وأخيرًا يجب أن يعي أعضاء مجلسي النواب والدولة أنهم أجسام موجودة منذ عشر سنوات وأكثر بحكم شرعية الأمر الواقع، وأن أقطاب المجتمع الدولي وأطياف المجتمع المحلي يدركون أن تمديد المراحل الانتقالية عبر تشكيل الحكومات المُتتالية لا يهدف لحل الأزمة السياسية إنما يساعد في استمرارها لضمان بقاء الأجسام الحالية.
إن طريق الوصول إلى حكومة قوية تفرض سيطرتها على الأراضي الليبية كافة يمر عبر انتخابات تشريعية تنتج حكومة مُنتخبة، تراقبها وتحاسبها سلطة تشريعية تمتلك الشرعية والمشروعية تُعيد المُلكية الليبية للعملية السياسية، كما أن إقرار قوانين انتخابية أو إطار دستوري دائم لإنجاز الانتخابات الرئاسية لن يكون إلا من خلال سلطة تشريعية موحدة وقوية، الانتخابات التشريعية هي الوسيلة الممكنة لحل الأزمة السياسية، بإنجازها ينتهي انقسام السلطة التشريعية، ويتم تكليف سلطة تنفيذية مُنتخبة لا يمكن ابتزازها أو تفكيكها، ولها القدرة على تهيئة الظروف المناسبة لإقامة الانتخابات الرئاسية.
ختامًا إن أي مُقاربة تطرحها البعثة الأممية لمعالجة النقاط الخلافية وترتيب أولويات العملية السياسية لن يكتب لها النجاح ما لم تكن قائمة على إنهاء الأجسام السياسية الحالية كافة عبر مسار واضح لإنجاز الانتخابات التشريعية، والعمل على اختيار لجنة فنية تتكون من أعضاء مجلسي النواب والدولة ويشكل المستقلون الغالبية في هذه اللجنة، وتكون لها مهمتان فقط، التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات التشريعية والإشراف على الانتخابات من خلال تقديم الدعم والمساندة لتسهيل عمل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات.
مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»
تعليقات