Atwasat

العودة المؤلمة إلى الجذور

عمر الكدي الإثنين 29 يوليو 2024, 03:37 مساء
عمر الكدي

ما من أمة نهضت من كبوتها ومن سباتها الطويل إلا وعادت أولا إلى جذورها في رحلة ليست لها علاقة بالحنين المريض، وإنما رحلة قاسية ومؤلمة. رحلة نقدية تتفحص فيها الجذور، وتستأصل الجينات المعطوبة التي تسببت في هذا السبات العميق والطويل.

الأوروبيون عادوا إلى الحضارة الأغريقية، ومن حسن حظنا اختاروا واحدا من كبار عباقرة حضارتنا كمرشد لهم، وهو أبو الوليد بن رشد الذي شرح لهم فلسفة أرسطو، ولهذا أطلقوا عليه لقب «الشارح الأكبر»، وخلدوه كمفكر أوروبي تحت اسم «أورفيوس»، ولهذا نجد في الفلسفة والعلوم الحديثة الكثير من المصطلحات اليونانية، فعصر النهضة بدأ في إيطاليا التي كانت تتكلم مثل غيرها في أوروبا الغربية اللغة اللاتينية، وهي لغة الكنيسة في الفاتيكان، بينما لغة القسطنطينية التي ورثت للأغريق هي اللغة اليونانية، وهي أيضا لغة الإسكندرية، حيث ازدهرت الثقافة والفكر والعلوم اليونانية، بل كتب مرقص الليبي إنجيله بهذه اللغة التي تعلمها في الجبل الأخضر.

وحتى تفهم الشعوب الأوروبية التي كانت تتكلم لغاتها المحلية، قرر الأوروبيون مقاطعة اللاتينية، لغة الكنيسة، والكتابة بلغة الشعب، وهكذا استأصلوا أحد الجينات المعطوبة. الكوميديا الإلهية لـ«دانتي» كتبت باللغة الإيطالية، ورواية دون كيخوته كتبت باللغة الإسبانية، ومسرحيات شكسبير كتبت باللغة الإنجليزية.

الصينيون عادوا إلى كونفوشيوس ولاو تزي، وأحالوا كتاب ماوتسي تونغ الأحمر إلى المتحف. لم ينجح ماو بكل قفزاته البهلوانية في القضاء على الحكيم الأسطوري كونفوشيوس. عادت الصين إلى حكمتها البسيطة والعميقة «لا تعطني سمكة بل علمني كيف اصطاد». اليابانيون لم يكونوا بحاجة لرحلة نحو الجذور، فهم يحملون جذورهم معهم أينما حلوا، ولكنهم شذبوا هذه الجذور، فاستأصلوا طبقة الساموراي، ولكن هذه الطبقة كانت تملك من الدهاء بحيث تسربت إلى الجيش الإمبراطوري، وهي التي قادت اليابان لتنتصر على روسيا القيصرية عام 1905 في مفاجأة أذهلت العالم، ولكن اليابان دفعت ثمنا فادحا وهي تستسلم للساموراي الذين تنكروا في زي العسكر، عندما ورطوها في الحرب العالمية الثانية وهجوم بيرل هاربر، فقصفها الأمريكيون بقنبلتين ذريتين. أخفى اليابانيون عسكرهم، ونهضوا من الرماد، ليصنعوا معجزة اقتصادية خلال عقدين.

الكوريون فقدوا حتى لغتهم، فبحثوا في القرى المعزولة بين الجبال عمن لا يزال يتحدثها. أولئك المسنون هم من علموهم لغتهم، ومن خلالهم عرفوا أساطيرهم القديمة، من بينها الأسطورة التي يلخصها علمهم المميز.

ترى لو قررنا العودة إلى تراثنا إلى أين سنعود، ونحن أمة تنوء بتراثها الثقيل؟ نحن ورثة سومر وبابل ومصر القديمة، وورثة الفينيقيين والكنعانيين واليمن السعيد، محفورة في العقائد والطقوس والأعراف والآثار، ولكن بما نحن عليه اليوم لا يمكن أن نجد أنسب من القرن الرابع والخامس الهجري. زمن ازدهار الفكر والفلسفة وعلم الكلام والشعر والنثر الرفيعين، وما علينا إلا استئصال كل ما عارض العقل والفطرة السليمة. لن نجد في ذلك العصر ما يعيننا على حل مشاكل عصرنا، سنجد فقط الشحنة اللازمة للانطلاق مرة أخرى.

علينا أن نطوي هذه الصفحة البائسة من صفحات الفتنة الكبرى. هل كان الحق مع علي أم مع معاوية؟ وثمة من لا يزال يبحث عن قتلة الحسين أكثر من البحث عن قتلة أطفال ونساء غزة.
جربنا كل شيء، واستوردنا كل شيء دون جدوى. الديمقراطية والليبرالية والعلمانية والاشتراكية والقومية، وفشلت جميعها، وجربنا حتى العودة إلى السلف الصالح، ولكنها كانت عودة ترفرف بأجنحة «النوستالجيا» والحنين المريض. قالوا إن أحسن فترة هي فترة الخلفاء الراشدين، فاكتشفنا أن ثلاثة من الأربعة ماتوا مقتولين، وبدلا من إسلام القرآن صار البعض يدين ب«إسلام» الحديث الذي دون بعد أكثر من قرنين من وفاة الرسول.

العودة إلى الجذور التي ذكرتها هي تمهيد ضروري للبدء في البناء، ثم يعقب ذلك عمل شاق في التعليم والتخطيط والتنفيذ، لنجني الثمار بعد سنوات من الجهاد الحقيقي، وليس جهاد داعش والقاعدة والجماعة الإسلامية. إصلاح الدين يأتي من رجال الدين قبل أن يأتي من خارجهم، فالذين أصلحوا الكنيسة هم قساوسة، فمارتن لوثر وكالفن واريسموس قساوسة، والعلماء خرجوا من رحم الكنيسة. كوبرنيكوس قس، وأبو علم الوراثة جريجور مندل قس، وسافونا رولا راهب دومينيكاني، وتشارلز داروين كاد يصبح قسا.

إذا حدث هذا الإصلاح فسنتطور وسنبقى مسلمين، وما يتفق عليه الناس من نظام الحكم يصلح لهذه النهضة ما دامت الحقوق الرئيسية التي كفلها الإسلام محمية بالدستور والقانون، وفي مقدمتها حرية الاختيار والتعبير والاعتقاد والعمل والاستثمار والتملك، والفصل بين السلطات، والمراقبة الصارمة للمال العام والحريات المذكورة، وأطلق ما شئت من تسميات على هذا النظام، الديمقراطية أو الشورى أو الحكم الرشيد. أما أن تغتصب السلطة بالقوة، وتجبرنا على السير خلفك، لأنك تعرف الطريق، فقد تعبنا من الخيبات، وآن لنا أن نستريح.

مقالات الرأي تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي «بوابة الوسط»