(1)
بعد أربعين عاما من العمل كطبيب ظننتُ أني «محصنٌ»، ومستعد لتحمل المآسي. ففي تلك العقود، تعودتُ على رؤية الدم المراق، وعلى فتح صدور المرضى.
في تلك المهنة رأيتُ أجسادا قُطّعت أطرافها في غرفِ العمليات، ورؤوسا قُطعت في حوادث الطرق، وصدورا بُترت بسبب السرطان، وشعرا تساقط بسبب العلاج الكيمائي.
مثل كل الأطباء تعاملتُ مع الموت عن قرب، فالأطباء ينتصرون عليه غالبا، ويغلبهم في بعض الأحيان.
حدث كل ذلك، لكن لم أفكر لحظة واحدة أن أبكي مثل طفلٍ عندما سمعتُ ما حلّ بشرقنا الحبيب.
إنّ إعصار درنة (وعلينا أن نسميه كذلك) قد فتح من كتابِ ذاكرتي صفحة «زلزال المرج» الذي بعث وقتها في قلبي الصغير الحزن والألم.
(2)
الكوارثُ عامة (الأعاصير وغيرها) توحد الناسَ، وتقرب المسافات بين قلوبهم، وهذا ما حدث -ولله الحمد- في بلدنا الحبيب. هذا التضامن سوف يساعدنا على بناء وطنٍ جديدٍ، لكن علينا ألا ننسى الألم والجراح التي سوف تبقى في ذاكرةِ أطفالنا عقودا طويلة، فالوطنُ الجديد الذي سنبنيه سيكون لهم.
علينا ألا ننسى أطفالنا في زمن هذه الكارثة. يحتاج هؤلاء إلى أن نشرح لهم معنى القضاء والقدر، ونزرع أيضا في قلوبهم بذرة التفاؤل والحلم بعالم أجمل.
جراحُ الأطفال عميقة في زمن الكوارث. هم في حاجة للحنان والأمل.
(3)
لم نفكر يوما في أن ليبيا قد يصيبها إعصار ذات يوم، والمفاجأة كانت لنا كبيرة. ما حدث لمدينة درنة الحبيبة ذكرني بما حدث العام 1900 في مدينة أميركية تحمل اسم «غالفستون». في ذلك الوقت لم يكن لدى العلماء أية وسائل للتنبؤ بالأعاصير، وكانوا يسمون الإعصار اسم المدينة المكنوبة. دمر إعصار غالفستون المدينة بأكملها، وقضى على حياة نحو 7000 من سكانها.
إنه قضاء الله وقدره الذي سيفتح عيوننا وعقولنا على حياة جديدة تعتمد على البناء العلمي والتخطيط الهندسي، وأبناء الوطن قادرون على كل ذلك.
(4)
كلنا يحب أن يزور درنة يوما ما وفي كل الأعمار.
كتب الصديق حسام الدين الثني على صفحته يقول: «أول مرة نزور درنة في حياتي كان عمري 7 سنين. جيتها في زَفّة. كلاكسات وألوان عقود وبهجة، وعقد ياسمين على جيد العريس». أما أنا فقد زرتُها وعمري 47 عاما في عزاء ابنة عمتي. عرفتُ يومها أن درنة هي المدينة الوحيدة في العالم التي ينزل أهلُها من عرباتِهم، احتراما عندما تقابلهم جنازة تَمُرّ أو سيارة تحمل نعشا.
جميلة أنت يا درنة.. أحبك.. مهما حدث ستبقين مدينة الزهر والحنة.
تعليقات