لا يوجد شعب واحد في الدنيا يحب مقطوعة موسيقية واحدة، يتّفق عليها مزاجهم جميعا، فتكون صاحبتهم في كل وقتٍ وحين. حتى موسيقى «النشيد الوطني» كثير من الشعوب لا يقبلونها، بل لا يتذكّرون إيقاعها، وإن عزفت أمامهم كل يوم في طابور الصباح، المدرسي أو العسكري، قليلون فقط يحبّونها، وهُم غالبا من العنصريين أحفاد ضحايا الحروب القديمة، أو المؤدلجين من ضحايا الفكر العقائدي.
هذه «العاطفية» المسلكية في حياة الشعوب كانت عبر التاريخ الظاهرة الأبرز التي أمكن للأنظمة الدينية القديمة استغلالها واستثمارها، والبناء عليها لمصلحة مشروع الحُكم باسم الدين الذي تأسس في عهد الخلافة، فجمعت مجتمعاتها على الانتماء العقائدي الديني كمنهاج حياة مجتمعي لا يرتقي فقط لمستوى مجالس الشورى، ولا في دروس منابر الجمعة، بل يطال جوهر الدين بمذهبة ومأسسة «المنهج»، بوصفه المنهل المعرفي الحاكمي لدسترة السُّلطة بالشريعة.
ومن هنا، قام النظام السياسي «الديني» في عهود الإسلام الأولى «الاستبدادية»، من العهد الراشدي إلى الأموي إلى العباسي الأول والثاني، إلى العهد العثماني الذي تربّع على أمجاد الخلافة بالسيف، وحكم الحقبة التاريخية الأطول شرقا وغربا إلى عصرنا الحديث، وهو العهد السياسي بامتياز، كونه يقف على قاعدة التأويل الدينية بخلاصتها المرجعية، ولبناتها التي جاز فيها الاجتهاد إلى أبعد من التفسير الديني، ومن خلاله نتجت «المذاهب» في وجهات سياسية مُحدّدة، غايتها السيطرة على العقل، وتوجيهه لمصلحة حاكمية السُّلطة، وحمايتها باسم الدين.
هذه المجموعات البشرية العربية البدوية التي جمعها الدين الإسلامي «الحنيف» في الجزيرة العربية، وانتشرت بعد «الخلافة» في بقاع الأرض بالفتوحات الإسلامية الدموية، كانت وراء مبدأ العقيدة «الراسخة» حد التطرُّف، وقادها مسلمون متعصبون تزعموا «أنظمة سياسية» سادت في الحُكم باسم الإسلام باستخدام الشريعة كسلاح «عقائدي» للسيطرة، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومسيئة للدين الإسلامي، بوصفه «دعوة للسلام» تستهدف كل عاقلٍ وجاهل على وجه الأرض، ولا إكراه فيه.
فحين هاجر الداعية المثقّف «الحجاج بن يوسف الثقفي» الطائف إلى الشام، والتحق بجيش «عبدالملك بن مروان» كان يحمل في قلبه غيظا وحقدا على بني قومه الذين علّمهم القرآن، وقاده حقده المطيع ليكون خادما للخليفة عبدالملك، ورغبته في السيطرة على عاصمة الدولة الإسلامية «مكّة»، وليطيح بعبدالله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، الصحابي الجليل، سبط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابن الصحابي العظيم حواري النبي ﷺ الزبير بن العوام، ومؤسس الخلافة الزبيرية، ليقتله «الحجاج» أمام الكعبة، ويقطع رأسه على مسمع من والدته العمياء.
وقد ضرب «مكة»، وأحرقها بنيران المنجنيق، حقدا دفينا وطمعا بواحا، لإرضاء «ابن مروان»، وإعلاء شأنه «القبلي»، ليسود في الأرض حاكما باسم الله، وكانت مكّة الحزينة وريثته في الحُكم مثل المدينة والطائف، وكل أرض الحجاز، بالإضافة للشام والعراق، وليبسط سيطرته على بلاد فارس والصين والهند، فكان دون الأمراء «أبو الملوك» الذي حكم دولة الخلافة واحدا وعشرين عاما!.
بالقراءات المتباينة لتلك الخلافة السافكة للدماء، كانت «الفتنة» العنوان الأبلغ للقضاء على الخصوم، وباسم الإسلام رُفعت رايات الجهاد في سبيل الله، وهي الراية نفسها التي علت دولة الخلافة، ورفعتها «داع» حديثا، ولكنها كانت جميعها رايات حروب ضد الإسلام، ومن أجل الجاه والسلطان والنفوذ، فمنذ حروب «الردّة» والإسلام في خطر من المسلمين أنفسهم قبل «الكفّار». ولربما كانت الحروب «الصليبية» في هذا الصدد ضد ممالك المسلمين، وليست ضد الإسلام!.
كان لنا في «ابن مروان» النموذج الأبرز، كونه عاش الفترة الأطول في العهد الأموي «الدموي»، يبني مجده بالسيف لا بالقلم، بالغزوات ونهب الغنائم وقتل الفقهاء والأغنياء والفقراء. فمن هو «عبدالله بن مروان» الذي أشعل الفتنة، ليحكم، ويتوارث نهجه المسلمون من بعده سبيلا ليحكموا، فقد كان قبل الخلافة عابدا ناسكا بالمدينة، فقيها بشهادة كبار الصحابة الذين قاتلهم بعد ذلك.
ويروى أنه كان أول من غدر في الإسلام، وأول من نهى عن الكلام بحضرة الحُكّام، وأول من نهى عن الأمر بالمعروف، وكان إذا جلس للحكم خيم على رأسه بالسيوف (راجع تأريخ الخلفاء). وقال عبدالملك: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلّا ضربتُ عنقه»!!، وذلك في خطبته الشهيرة بالمدينة، بعد قتل ابن الزبير في عام حج 75 هجرية. وكان، وهو «الخليفة»، مرصّعا بالذهب، فاسقا مولعا بالنساء، منشغلا بالملذات، وبناء مجده الذي ساد في الأرض ردحا باسم الإسلام.
كان عبدالملك نموذجا للفتنة في دولة الخلافة، التي عاش على ثقافتها الكثير من التابعين من بعده إلى عصرنا الحديث، وسُخّر له «الحجّاج» يدا ضاربة، كما سُخِّرت «داعش» للكثير من الحُكّام من بعده. وللأسف، نجد في التاريخ الإسلامي من يحاول تجميل قبح تأريخه، كما تجميل قبح تاريخ الكثير من الحكام المسلمين، قديما وحديثا.
تعليقات